الخلود




رواية الخلود أو ما أسميتها بـ "رواية الأنا" هي رواية للروائي والفيلسوف الفرنسي الجنسية التشيكي الأصل، ميلان كونديرا.

كل فلسفة تتعلق بالأنا والغوص في الذات، رغبات الذات أو ما تعكسه الذات في المحيط الذي يحويها لابد وأن تكون مربكة، عميقة تحث على التفكر، وهذا ما وجدته في رواية الخلود. وبقدر ماكان هناك من التشويق بقدر ما كان فيها من الثقل وهذا هو شأن الرواية الفلسفية فإنها تتناسب طرديا مع عمق فكر القاريء ومستواه الثقافي فكلما استوعب عمق وأبعاد الفكرة الفلسفية كلما غرق في العمل واستمتع به أكثر. لا يكتب ميلان كونديرا رواياته بالطريقة النمطية اللي نعرفها ولكن له أسلوبه الخاص فلا يؤمن بالأسلوب النمطي للرواية حيث أنها تكون مجرد تسلسل للأحداث، فعندما تقرأ لكونديرا تشعر وكأنك تبحث عن الأحداث بحثاً في وسط الأفكار الفلسفية وكأنك تجمع أجزاء أحجية تقوم بتركيبها حتى تظهر لك الصورة النهائية. ولا أجد ما يفسر منهجه في كتابة الرواية أفضل مما عبر هو عنه على لسان أحد شخوص روايته الخلود بقوله "آسف أن تكون كل الروايات تقريباً التي كتبت حتى يومنا هذا خاضعة بشكل مفرط لقاعدة وحدة الحدث. أقصد أن أحداثها ووقائعها جميعاً تقوم على تسلسل سببي واحد. إن هذه الروايات تشبه زقاقاً ضيقاً نطارد فيه الشخصيات ونحن نجلدها. إن التوتر الدرامي هو اللعنة الحقيقية التي حلت بالرواية لأنه يحول كل شيء، بما في ذلك أبدع الصفحات، وأكثر المشاهد والملاحظات إدهاشاً إلى مجرد مرحلة تقود إلى الحل النهائي الذي يتركز فيه معنى كل ما سبقه".

ومن خلال هذه الرواية وبهذا الأسلوب أراد الغوص في الأنا وفكرة إظهارها من قبل الإنسان، فلكل إنسان أسلوبه في إثبات وجود ذاته بين بني البشر في هذا العالم فمنهم من يثبت ذاته بالمعرفة ومنهم من يثبتها بالعمل والنجاح ومنهم من يثبتها بالسخافات أو بالجريمة فإثبات الذات عامل مشترك بين بني البشر تختلف طرائقه خلال عمر الإنسان بحسب عمره وظروفه ومستوى معرفته ولتوضيح هذا المعنى يقول: ( تذكرت أنييس المرأة الغريبة التي دخلت إلى السونا قبل ذلك بثلاث ساعات وأعلنت بصخب عند عتبة الباب بأنها تكره الحمامات الساخنة كرهها للتواضع، وذلك لكي تقدم أناها وتفرضها على الآخرين)، وهكذا بتصرفات بسيطة وقد تكون مزعجة يريد الإنسان أن يفرض وجوده ويثبت ذاته.

 ومن جهة أخرى كيف يرى الإنسان آخَره؟ كيف يظهر الإنسان في عين الآخرين؟ كيف له أن يتميز ويظهر مختلفاً؟ هل وجوهنا هي التي تميزنا أم ما وراء وجوهنا؟ "تخيل لو أنك تعيش في عالم لا توجد به مرآة، ستحلم بوجهك، وستتخيله كانعكاس لما يوجد بداخلك. ثم تخيل أن أحداً مد لك مرآة وأنت في الأربعين من عمرك، تخيل الرعب الذي سيصيبك. سترى وجهاً غريبا عنك تماماً. ستفهم بوضوح ما رفضت التسليم به: ليس وجهك هو أنت"
ومن زاوية أخرى "إنه لوهم ساذج أن نعتقد أن صورتنا مجرد مظهر، تختفي وراءه مادة (أنانا) الحقيقية، باستقلال عن نظرة الآخرين. فالصورلوجيون يثبتون بسخرية لاذعة أن العكس صحيح: أنانا مجرد مظهر مبهم يتعذر الإمساك به ووصفه، في حين أن الواقع الوحيد الذي يسهل الإمساك به ووصفه هو صورتنا في عيون الآخرين. والأدهى هو أنك لست أنت من يتحكم فيها. تحاول في البداية أن ترسمها بنفسك، ثم تحرص على أن تكون قادراً على التأثير والتحكم فيها على الأقل، لكن عبثاً، إذ تكفي عبارة حاقدة لتحولك إلى الأبد إلى كاريكاتور بئيس." 

وهكذا يتنقل من فكرة لأخرى يغوص في النفس البشرية وتناقضاتها في توقها للظهور ثم الخلود في ظل معرفة المصير المحتوم - ألا وهو الموت -، يغوص في تقلباتها العاطفية التراجيدية منها والسعيدة. 

الخلود / ميلان كونديرا / ترجمة محمد التهامي العماري / المركز الثقافي العربي. ٢٠١٤م


تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

توأم الروح

تاريخ المكتبات (٣) الحضارات القديمة وأوراق البردي