المؤمن الصادق... المتطرف الكامل
"المؤمن الصادق - أفكار حول طبيعة
الحركات الجماهيرية" كتاب من تأليف إيريك هوفر وترجمة الدكتور غازي القصيبي واصدار
دار كلمة والانتشار العربي ٢٠١٠.
أقدم على ترجمة هذا الكتاب الدكتور غازي القصيبي حيث أنه وجد فيه
الجواب عن السؤال الذي أشغله دوماً، لماذا يصبح الإرهابي إرهابياً؟ بالرغم أن
الكتاب لا يتحدث عن الإرهاب ولكن يتحدث عن الفرد الذي يؤمن بقضية ينضم من أجلها
لجماعة يضحي من أجلها بحياته بكل اقتناع، (والمعادلة التي يعرضها المؤلف بسيطة
ومقنعة، في الوقت ذاته وهي تبدأ بالعقل المحبط).
الإنسان المحبط لأي سبب كان دائماً ما يتوق إلى الهروب من ذاته والتي
ينظر إليها بنظرة انتقاص ويحتاج إلى عوامل تحفز هذا الإحباط فالشخص المحبط لا يغير
شيء ولا يتوق إلى التغيير إن لم تتوفر له عوامل تحفزه إلى إظهار عدم الرضا والتذمر،
يحتاج المحبط إلى الإحساس بالقوة (لأن الذين يخافون محيطهم لا يفكرون بالتغيير)،
وإلى الأمل والإيمان المطلق بالمستقبل لأن الخوف من المستقبل (يدفعنا إلى التمسك
بالحاضر، بينما يجعلنا الأمل في المستقبل متحمسين للتغيير)، ولا يكون هذا التغيير
في ظل النظرة المنتقصة لذاته إلا بالانتماء الى جماعة لديها قضية مقدسة من وجهة
نظره، لأن الحركة الجماهيرية (تقدم بديلاً للأمل الفردي الخائب).
الحركة الجماعية أو الجماهيرية لكي تلبي رغبة هذا المحبط الهارب من
ذاته التواق للبطولة يجب أن توفر له عدة عوامل تشعره بالذات المنشودة في مخيلته
فيجب عليه أن يكون مستعداً لعمل المستحيل بالتخلص من ذاته الفردية تماماً وتعلم
الطاعة العمياء لأبجديات الجماعة، يجب أن تتولد في ذاته الكراهية لعدو واضح يكون
بنظره الشيطان الأكبر، يجب على هذا الفرد أن يؤمن بامتلاكه الحقيقة المطلقة والتشكيك
بغيره دوماً لأن (الانضباط قد يكون نتيجة الشكوك المتبادلة وقد يكون نتيجة الإيمان
المتحمس)، السرعة في تصديق كل ما يقال له وعادة ما يكون الفرد المحبط كذلك لأنه
تواق للتخلص من الذات يريد أن يقلد الرموز الأسطورية؛ والتقليد
يحقق هدفين من أهداف الفرد المحبط تحقق له التخلص من ذاته المكروهة والحصول على
هوية جديدة تساعده على عملية صهر ذاته وريادتها ضمن المجموعة، ومن العوامل المهمة
لخلق فرد مؤمن بالقضية هو تعزيز احتقار الحاضر المعاش لديه ويتم ذلك بعدة طرق
منها، إشاعة التقشف والخشونة والزهد بإظهار أن كل هذا الحاضر مجرد هباء، العمل على
تمجيد الماضي والإيمان بالمعجزات المستقبلية وجعل الحاضر مجرد حلقة وصل بين ماضي
مجيد ومستقبل واعد. وهذه العوامل لا تتهيأ لأفراد الجماعة إلا إذا كانوا تحت قائد
يمتلك القدرة الكاملة على تحليل النفس البشرية حتى يستطيع أن يعبر عن النقمة
المخزونة في صدور المحبطين، قائد يمتلك تصديقاً كاملاً بالمبدأ الذي يدعو إليه،
يتمتع بالثقة المطلقة بالذات والشجاعة الكاملة لمواجهة التحديات، مراوغ ماكر، يشعل
رؤى المستقبل في عيون أتباعه كأنها حقيقة لا مناص منها، مولع بالرموز والأساطير الذين
يغذي بهم عقول هؤلاء الأتباع، قائد يستطيع أن يكوّن ولاء مطلق في قلوب أتباعه
وخاصة المقربين منه.
وبمجرد مرور هذا الفرد على هذه العوامل والارتقاء في الجماعة بتحقيقها،
ويصبح في تماهي تام ضمن المجموعة يجعل ذلك منه متطرفاً وهذا هو المراد منه لأنه (ليس
بالإمكان إبعاد المتطرف عن قضيته بالمنطق والنقاش) وخاصة بعد تكوين عقيدة لا يهم
مدى صدقها أو فضيلتها ولكن المهم أن يراها هو كعقيدة معصومة من الخطأ، ومن الملاحظ
أن هذه العقيدة عادة غير مفهومة أو معقدة، عقيدة يروها بقلوبهم لا بعقولهم كما
يزعمون، (يقول رودولف هس وهو يطلب من الشباب النازي أن يرددوا قسم الولاء خلفه
"لا تبحثوا عن إدولف هتلر بعقولكم: ستجدونه كلكم في قلوبكم) وهذا يتطلب تعزيز
الخيال الجامح لأنه (يصبح الموت والقتل أسهل عندما يصبحان جزءاً من طقوس درامية في
مسرحية) لأن (التضحية بالنفس عمل غير عقلاني ولا يجيء نتيجة بحث وتحليل).
ثم ينتقل الكتاب إلى ما بعد تكوين هذه الجماعات، عوامل نجاحها
واندثارها كيف تتهيأ لها البيئة المناسبة للعمل والتغيير ويعبر بذلك باختصار
بإيضاح أن الحركة الجماهيرية يخطط لها رجال الكلمة (المثقفون الشعراء المؤرخون
الفلاسفة) لأنهم هم من يستطيعون الحديث والتأثير وإظهار الأوضاع السائدة، (يستطيع
رجال الكلمة عن طريق الانتقادات المستمرة والسخرية المطردة أن يهزوا العقائد
والولاءات القائمة)، وبذلك تتهيأ التربة الخصبة للحركات الجماهيرية، ثم يظهرها إلى
حيز الوجود المتطرفون "الأفراد المؤمنون بها" ويحافظ على بقائها الرجال
العمليون (القادة الفاعلون).
يتحدث الكثير عن تشابه هذا الكتاب وكتاب سيكولوجية الجماهير لغوستاف
لوبون ومن وجهة نظري أن كل منهما يكمل الآخر فهذا الكتاب يتحدث عن الفرد المهيأ
أساساً للانضمام إلى الجماعات الجماهيرية والذي لا يحتاج إلا لعوامل وظروف معينة لاكتمال
هذا الانتماء، أما كتاب "سيكولوجية الجماهير" يتحدث عن الجماعة المتكونة
بعد ذلك وتأثيرها في الفرد والمجتمع الذي كان بمنأى عن الانتماء أو التأثر بهذه
الحركات الجماهيرية، وكأني أرى هذا الكتاب "المؤمن الصادق" كجزء أول
وكتاب "سيكولوجية الجماهير" هو الجزء الثاني من حكاية الجماعات
الجماهيرية.
هناك الكثير من التفاصيل في هذا الكتاب القليل في عدد أوراقه والتي لا تصل ال ٢٤٠ ورقة ولكنه كبير بأفكاره التي تنم عن مجهود جبار وملاحظة ثاقبة من قبل إيريك هوفر في ملاحظة سمات المؤمن الصادق ولا دليل على مدى أهمية وعمق الكتاب أكثر من أنه تم تأليفه في منتصف القرن الماضي ومازالت افكاره تفسر وتعكس حال المتطرف المكون للجماعات الجماهيرية إلى يومنا هذا.
تعليقات
إرسال تعليق