طائر الليل البذيء*



"
 من أراد أن يغامر ويبحر في عوالم فنتازيا لا يخرج منها إلا بما تخرج به الشبكة من شعاع الشمس أو قبضة اليد من الريح فعليه بهذه الرواية.
"

بهذا الوصف قدّم المترجم بسام البزاز رواية طائر الليل البذيء للروائي التشيلي "خوسيه دونوسو"، وبسبب هذا الوصف ظلت هذه الرواية على أرفف مكتبتي لأشهر، حتى تملكتني روح المغامرة لانتشالها وقراءتها، وما هذه القراءة إلا لما قبضت عليه يدي من الريح العاصف الذي جاءت به أحرف هذه الرواية والتي جسدت مجتمعين مختلفين، كل واحد منهما في مكان وزمان مختلف عن الآخر، ولكنهما مترابطين. 

مجتمع الراهبات الطاعنات في السن، وهذا ما يمثل المجتمع الديني بما يحمله من أساطير، وخرافات، مجتمع يعكس صورة الخيال الجمعي لهذا الشعب، شعب تشيلي ذلك الجزء من العالم والذي تنتشر فيه حكايا الخرافة، السحر، والشعوذة، وأساطير القداسة. مجتمع لا يُسيّره سوى القيل والقال فيقولون: "كلمة قديرة قادرة على كل شيء في أفواه العجائز" من دون أن يعرفن من يقول ولمن يقول ومتى يقول وكيف يقول، ولكنهم يقولون ذلك. "يقولون إن المرأة حين تضاجع رجلاً بعد طول انتظار يولد الطفل مسخاً"، يقولون "إن الموز يؤذي حين يؤكل مع الجعة ليلاً" وهكذا كسائر المجتمعات التي استبدلت العقل والمنطق بقانون "يقولون" أراد خوسيه دونوسو أن يصور أن الحياة على أساس الأسطورة والخرافة والسعي إليهما والإيمان بهما لا يدل إلا على الضعف من جهة، وقلة الحيلة من جهة أخرى وذلك بربط ذلك التصرف بمجتمع النساء العُجُز والفتيات اليتيمات اللاتي يشاطرنهن هذا المسكن.  


اقرأ في هذه المدونة "الصبية والسيجارة... الحرية تحتاج إلى التخلص من الحرية" انقر هنا


أما المجتمع الآخر هو مجتمع المسوخ والذي بناه ورسم قوانينه "الدُّون خيرونيمو" والذي أصاب الثراء وتقلد السلطة والحكم فقط من خلال عائلته النبيلة والتي توارثت السياسة والسلطة بمبدأ الوراثة لا الكفاءة أو الاستحقاق. بنى "الدُّون خيرونيمو" هذا المجتمع المغلق من المسوخ، فقط من أجل ابنه المسخ والذي كانت ولادته "من وجهة النظر العلمية وبحسب رأي الخبراء، تمثل انحرافاً " فما كان من هؤلاء الخبراء إلا أن قالوا " عليك أن تتقبل فكرة أن ولدك سيموت وربما في ذلك صالح، تخيل مصير كائن كهذا" فما كان جوابه إلا أن قال: "افعلوا ما في وسعكم كي لا يموت. أما مصير ولدي فهي مسألة تخصني". من هذا المنطلق جمع "الدُّون خيرونيمو" كل انسان يحمل أي تشوه، كل شخص يعد في نظر الآخرين مسخاً، وبمستويات مختلفة مسوخ درجة أولى، ثانية وثالثة ... وذلك حتى يجعل ابنه في مجتمع ملائم، ليكبر ويشعر أنه طبيعي كغيره، حتى لا يشعر بالاختلاف، فالإنسان عندما يكون في مجتمع لا يرى فيه أن تصرفاته شاذه أو خلقته غريبة، سيعتقد أنه طبيعي وأن ما يقوم به صحيحاً، ولكثرة تشوهاتنا التي طرأت علينا كبشر أصبحنا نؤمن بأن تشوهاتنا طبيعية وهذا ما مثلته هذه الفكرة في مخيلتي للوضع الحالي للبشر. هناك من يعتلي السلطة في الحكم أو العمل أو غيره، يتحكم ببناء وتوجهات مجتمع ما، وجميع من هم تحت هذه السلطة بكل عيوبهم، شذوذهم وبكل ما يعانوه من بؤس أصبحوا كهؤلاء المسوخ يعتقدون أن حالهم طبيعي فكل من حولهم يركبون الموجة ذاتها. الدّون خيرونيمو لم يتنازل أن يزور أو يرى ابنه أو هذا المجتمع الذي بناه وإنما جعله تحت سُلطة قريبته المسخ من الدرجة الأولى "امبراتريث" وخادمه الذي يثق به "أومبرتو" وهو انسان طبيعي، وهكذا جعل على رأس هرم السلطة رمزين أحدهما طبيعي والآخر مسخ، فالمسخ يعرف احتياجات ومشاعر المجتمع المسخ الذي يحكمه وبذلك يسهل توجيهه، أما الرمز الطبيعي فكان من أجل أن يكسبه مرتبة المسخ لأنه "غير طبيعي" لأن المسوخ في هذا المجتمع هم الطبيعيون، وهذا التصرف وهذه الفكرة هي الطريقة المتبعة في إدارة المجتمعات وتوجيهها فبكل بساطة قم بخلق صورة ما تريد وضعها في برواز (الطبيعي) لبناء الألفة والسكون، وجسد فكرة مالا تريده وضعها في برواز (غير الطبيعي) لخلق الرهبة، فالخوف يعد من أهم العوامل التي تثبط الإنسان عن المضي قدماً نحو الاكتشاف أو التغيير أو حتي مجرد الطموح بالتغيير.

وفي يوم من الأيام وبعد أن كبر الصبي المسخ وخرج إلى الشارع وتاه لعدة أيام عندها زالت الغشاوة عن بصره اكتشف ان ما كان يراه مسخاً في مجتمعه هو الشيء الطبيعي في غيره، تعرض للتندر ونظرات الاستهجان والاستغراب بسبب خِلقته المشوهه وهنا تأتي مرحلة اكتشاف الحقيقة وهنا يصبح الانسان أمام خيارين، اما الرضى عن الذات والإيمان بالاختلاف والتعايش أو محاولة إلغاء الآخر، وهذا ما سعى إليه الصبي المسخ اذ قرر أولاً السعي لإلغاء وتدمير العالم الخارج ثم أمر طبيبه الخاص "آثولا" قائلاً: "ستستأصل من دماغي ذلك الجزء الذي خُزنت فيه جميع تجاربي عن تلك الأيام الخمسة التي قضيتها في الخارج ... لتتركني جاهلاً ونقيا كما كنت في أوقات أخرى". فذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم. وهذا ما اختاره الصبي. 

اقرأ في هذه المدونة "يوم النمل .. ماذا لو؟" انقر هنا


تنازل الدّون خيرونيمو يوماً ما وقرر زيارة هذا المجتمع الذي بناه ولم يره، عندما قرر رؤية ابنه، وبعد زيارته لهذا المجتمع قرر توسيع دائرة هذا المجتمع بتزويج ابنه، قرر دمج هذا المجتمع مع الخارج، قرر إزالة الفوارق التي بناها بين (المسخ والطبيعي) خلال سنوات وسنوات. عندها ماذا تتوقعون؟ ما الذي سيحدث؟ هل من السهل دمج طبقات وطوائف المجتمع بسهوله بعد أن تم التفريق بينهم وتقسيمهم لطبقات على مر السنين؟ من المؤكد لن يكون سهلاً. حينها ترأس الصبي مجتمع المسوخ وقرر قيادتهم حتى لا يخسروا مجتمعهم، حتى لا تذوب حواجز الوهم الذي يعيشون داخله، حينها أخذ على عاتقه دفة توجيه هذا المجتمع نحو أفكاره السلبية، فأجمعوا على ألا يعودوا إلى "عالم لا يتذكرونه، بل يفضلون عدم تذكره"، لن يسمحوا للدُّون خيرونيمو "أن يجبرهم على الخروج مجدداً من ذلك الذي يسمونه الواقع" قرروا جميعاً الوقوف مع الابن المدافع عن قضيتهم ضد الأب الذي "يظن نفسه مالك العالم لمجرد أنه اخترعه". 

بين هذا المجتمع وذاك تترابط الأحداث من خلال السرد العجائبي لخوسيه دونوسو، من خلال تقنيات سردية يتغير من خلالها الرواة، الضمائر والأزمنة، وبشكل فجائي، يتطلب الكثير من التركيز. ومما زاد من صعوبة قراءة هذه الرواية هي أن الترجمة لم تأخذ العوامل السالف ذكرها بالاعتبارمن ناحية تشكيل الأحرف، فكثيراً ما تحتاج الأحرف إلى تشكيلها بالحركة حتى يتنبه القاريء لتغير الخطاب من المذكر إلى المؤنث حتى يستطيع القراءة بسلاسة، فلا يُقطع حبل الأفكار الذي بالكاد نتمسك به في نص كهذا، وهذا ما يقر به المترجم بسام البزاز في مقدمته "حاولت ربط كل منفلت متلمساً الطريق وناسباً كل قول لقائله، وكل فعل لمن أتاه وفعله. فالكاتب يتعمد الخلط ويقصد الغموض". وهذا جهد جبار يشكر عليه الأستاذ بسام فالرواية قراءتها صعبة، فماذا سيكون حال ترجمتها؟. 


اقرأ في هذه المدونة "ظل الريح..كارلوس زافون" انقر هنا 


واجهتني بعض الكلمات المزعجة في هذه الترجمة والتي أرى من وجهة نظري الخاصة أنها أثقلت كاهل كثيراً من الجُمل، ومن هذه الكلمات كلمة (سكسي)، (سكسك) والتي يُشار من خلالها للعضو التناسلي، فكلمة سكسي ليست عربية من الأساس، إضافة إلى أني أجد معناها بلغتها الأساسية لا يمكن أن يشير إلى العضو التناسلي أبدا. كلمة (بوي) يشار بها وفي عدة مواضع إلى الصبي المسخ وغيره، فهل هي اسم في النص الأصلي أم أنه يراد بها بوي الإنجليزية بمعنى "ولد أو صبي"؟ أرجو أن يتم الإشارة إليها بهامش يفسرها في الطبعات الجديدة فالعمل على تنقيح هذه النقاط في الطبعات القادمة يزيد من متعة الغوص في نص من هذا الطراز. 
---------------------------------------
*طائر الليل البذيء / ترجمة بسام البزّاز / دار المدى / الطبعة الأولى ٢٠١٧ 




لمتابعة قناة حرم الجمال (يوتيوب) انقر هنا 
لمتابعة قناة حرم الجمال (تيليجرام) انقر هنا 
بودكاست حرم الجمال (ساوند كلاود) ( انقر هنا)

بودكاست حرم الجمال (أپل بودكاست) ( انقر هنا)


تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

تاريخ المكتبات (١).. مكتبة إيبلا هي الأولى

الحب .. موت صغير