التصوير النفسي والاجتماعي للفلسطيني في رواية برتقال اسماعيل لكلير حجاج

 


كلير حجاج كاتبة فلسطينية الأصل من أم يهودية، وهذا الخليط الديني الحضاري أثر في نشأتها فأمضت حياتها تحاول أن تصنع جسور الالتقاء بين هذين العالمين، ورواية برتقال إسماعيل ما هي إلا نتاج هذه الفكرة التي تسعى لتحقيقها. 

 

برتقال إسماعيل رواية ينساب سردها بكل عذوبة لتأخذنا في بدايتها بشكل متوازي بين حياة سالم، الطفل ذو السبعة أعوام والذي يعيش في يافا؛ وحياة جوديث الطفلة اليهودية التي تعيش في المملكة المتحدة. سالم يشهد بداية هجرة اليهود إلى أرض فلسطين حتى يشهد دخول اليهود إليها فتُهجّر أسرته إلى الناصرة، فيبقى في داخله ذلك الحنين إلى منزله وشجرة البرتقال التي وعده أبوه بقطف ثمارها عندما يكبر. تمضي السنوات ويفاجأ بخبر رغبة والده في بيع منزلهم في يافا لليهود فقد ضاقت به السبل، وهذا الغضب هو المكون النفسي الأساسي لهذا الطفل.  

 

جوديث طفلة غير مقتنعة بكل الطقوس اليهودية، تواجه رفضاً داخلياً لكل المناسبات التي تقيمها عائلتها، سئمت كثرة الحديث عن الظلم الذي يتعرض له اليهود دوماً، تعيش بمشاعر غير متزنة بسبب هذا التعلق بالماضي وإصرار بناء المستقبل عليه.

 


اقرأ في هذه المدونة "تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان (انقر هنا)


تأخذنا الرواية عبر سنوات النكبة وحرب عام ١٩٥٦، ١٩٥٩،  و١٩٦٧ حتى الحرب الأهلية اللبنانية، تنقلنا الرواية بين يافا، والناصرة، وتسافر بنا إلى لندن، الكويت، العراق ولبنان تصور حال الحرب واللاجئين، وبين كل هذه الأحداث المؤلمة ينسل خيط الحب الذي يجمع بين (سال وجود) الاسمان الغربيان البديلان لـ(سالم، وجوديث)، الحب، هذا الشعور الإنساني الذي تتمنى كلير حجاج أن يستعيض به البشر عن الخلاف والحرب والدمار.  

 

تتقاطع حياة سالم وجود في لندن في الستينات الميلادية، عندما التحق سالم بأخيه حسان هناك، وقرر أن لا يتعلق بذكرى منزله وشجرته، قرر أن ينفصل عن الماضي ويبدأ حياة أخرى، فقد ذهب بجواز سفره (الإسرائيلي) إلى لندن، وبدأ حياة جديدة، حياة الجد والعلم. قابل جوديث ونشأ بينهما حباً يلغي كل الفوارق الدينية والفكرية وتعاهدا على أن يبقيان على هذا الحب لا تفرقهما السياسة ولا الدين. وبرغم كل الرفض من أهليهما إلا أن الحب انتصر، تزوجا، واستطاعا اثبات أن الحب والإنسانية هي موطن البشر. ولكن هل استمر هذا الواقع؟ هل نستطيع أن نتجاوز البيئة والمحيط والمجتمع؟ هل نستطيع أن نتجاوز القبيلة والدم والدين؟ أترك لكم معرفة هذه الأحداث التي تنساب على الصفحات الأربعمائة لهذه الرواية، بترجمة الرائعة نوف الميموني، والتي تشعرك وكأن الرواية كتبت بالعربية وهذا ما تجيده نوف الميموني كما فعلت في ترجمة رواية ما رواه المغربي لليلى العلمي. (انقر هنا)

 

ما يعنيني في هذه القراءة هو الصورة التي تريد أن تصور كلير حجاج بها الأحداث، وتعامل الفلسطيني معها، وأيضاً التركيبة النفسية لشخوص أبطال هذه الرواية، إليكم هذا الاقتباس 

 

"أبو مازن نقل لبيت أبوك عمل نفسه قريبه لحتى يمنع اليهود انهم ياخدوا البيت بموجب هاي القوانين. وهلأ أبوك بيفكر يبيع الأرض منشان يكون فيه مصاري لتعليمك ومستقبلك. لكن الظاهر فيه شوية مشاكل. منشان هيك إحنا رايحين نشوف أبو مازن بكره في مكتب البلدية في تل أبيب لنحكي معه ومع الإسرائيليين" 

 

وكانت المفاجأة حيث أنهم قابلوا إسحاق، أبو إيليا الصديق (اليهودي) لسالم وكان حريصاً على مساعدة جاره في مبنى البلدية وتسهيل أموره والشهادة له بملكية المنزل، ولكن كانت الصدمة عند لقاء المسؤول عن ملكيات العرب: 

 

" لدي وثيقة أخرى مسجلة لدينا منذ أعوام قبل عملي هنا. وهذه الوثيقة تثبت أنك كنت مجرد مستأجر في المنزل، وأن المالك الوحيد وفقاً لما هو مكتوب فيها هو حمزة الخليلي وكنيته أبو مازن" 

 

الصدمة هنا، خان أبو مازن أبا حسان وباع منزله، وضل اليهودي أبو إسحاق وفياً لأبي حسان وحاول أن يساعده. 


اقرأ في هذه المدونة "كوميديا دانتي ٠١"(انقر هنا)

 

تدور الأيام والاحداث والسنين، انقضت أربعون عاماً ليعود سالم مطالبا بمنزله الذي ارتبطت به حياته، وذكرياته التي قاومها ليجد إيليا صديقه (اليهودي) القديم يعمل محامياً فيسعى لمساعدته، إلا أن مازناً صديقه الفلسطيني المتنمر عليه دوماً في طفولتهما يعود على مسرح الأحداث لتحصل اشتباكات وأحداث أترك لكم اكتشافها، ولكنها أدت إلى خسارة سالم لمنزله للأبد. 

فقط في هذا الحدث من الرواية وإن سلمنا بأن ليس كل يهودي هو صهيوني وقد ينشأ شيء من الوفاء الإنساني كما حصل بين سالم وإيليا، وبين أبي سالم وإسحق، فهل مشكلة الفلسطيني هي الفلسطيني؟! 

 

بدأت أتقصى التركيبة النفسية لسالم منذ أول لقاء له مع جود: 

جوديث تسأل: ما أصل أسرتك؟ رفع عينيه ينظر إليها، ثم أخفضهما نحو الطاولة مرة أخرى. بدأ الحزن والخجل على وجهه. قال بحذركأنما يدلي باعتراف: "اسمي سالم، سالم الإسماعيلي. أسرتي عربية. ليست روسية أو فرنسية. 

وفي سياق الحديث قالت عمي يعيش في إسرائيل، فكان رده أنا أيضاً من هناك. وكنا نسميها في زمني فلسطين.

 

كل ما وضعت تحته خط يستحق التأمل. 

 

اقرأ في هذه المدونة "لعنة الأبد" (انقر هنا)


تسير الأحداث، يتزوج الحبيبان، ينجبان صوفي ومارك، ونلاحظ هنا اختيار الأسماء لفلسطيني يبدو أنه يجبر نفسه على النسيان حتى في أسماء أبنائه. أو أنه يحاول أن يثبت اندماجه واحترامه للثقافة المغايرة. 

 يشعر بالتناقض الذاتي من ملامح ابنه الشقراء، " تضايق سالم من بياض بشرة مارك، كأنها إهانة متعمدة في حقه. تفهمت جود انزعاجه وارتيابه. أصحابك العرب لا يثقون بزوجتك الشقراء، وبعد أن يروا ابنك الأبيض يحق لهم أن يتساءلوا ...ابن من هو". نلاحظ هذا الانقسام والتشظي في نفسية سالم بين ما يحب أن يكونه وبين ما يجبره محيطه على اثباته.

 

 بعد اختياره أن ينتقل للكويت للعمل هناك رغبة في الثراء، فهذه الدول البدوية الصحراوية بدأ النفط يجعلها أكثر ثراء، بدأ اختلاطه بالعرب هناك يعيد له ذكريات الطفولة ،بدأ الحنين إلى كل ما حاول أن يتناساه وينسلخ منه في السنوات الماضية، وكيف هذا التأثير بدأ ينعكس على تربية أولاده وإدخالهم في صراع بين ثقافته العربية وثقافة أمهم اليهودية التي اتفق هو وجود على احترامها.  


إليكم هذا المشهد: 

الطفل مارك أراد أن يزرع نبتة، ولكن حر الكويت الحارق يمنع من نموها فقال: "النباتات تنمو في إنجلترا. ليتنا نعيش هناك؛ فكان رد سالم لابنه: "لكننا نعيش هنا يا مارك. هذا هو بيتنا"، أنت عربي أيضاً ومكانك هنا وليس هناك". 

هذا الضغط النفسي على سالم بدأ من المحيط الفلسطيني الذي بدأ يعيش فيه في الكويت: 

 

مشهد: 

"صعب على أي ست غربية إنها تربي ولاد عرب. بقصد يعني تربيهم تربية عرب. شوف ولادك. ما بيقدروا يحكوا مع أحفادي عربي. وما بيعرفوا القرآن".

"الرجال ما بيربوا ولادهم. النسوان هم اللي بيربوا. كل اللي بيتعلموه الزغار وكل اللي بيدخل قلوبهم بيجي منها".

 

ولكن كيف تصور كلير حجاج صورة الفلسطيني الذي يعيش في الخليج أثناء تلك السنوات أي السبعينات الميلادية؟ 

 

مشهد: 

"قضوا ليلتهم تلك في سهرة في البر، مع أصحاب ورجال يقولون إنهم أسرة واحدة. والكويت مليئة "بالأسرة"، وهم أعيان فلسطينيون هاجروا إلى بلد الشهد ليذوقوا العسل الأسود الذي ينبع من باطن الأرض، وينتظر من يغترف منه. على موائد العشاء وعلى أطباق الحلو كانوا يتحدثون عن الاخوان الذين يموتون في بيروت وفي المخيمات. وبعدها يتنهدون ويمسحون أيديهم، ثم يقودون سياراتهم إلى فللهم، مع زوجاتهم المغرقات بالجواهر وأبنائهم البدناء". 

 

عن ماذا يعبر هذا المشهد؟ الحديث عن القضية حديث سَمَر؟ ولا يهم الفلسطيني في القضية إلا أني يجب أن أتحدث عنها فقط! 


اقرأ في هذه المدونة "في مديح الموت" (انقر هنا)

 

سالم في وظيفته وفي ظل هذه البيئة الضاغطة تظهر كلير حجاج احساسه بالدونية الذي يظهر على السطح في كل مرة يحاول فيها مقاومته، فبالرغم من تعليمه العالي الذي سعى إليه لاثبات ذاته، وحياته في الغرب، وزواجه منهم إلا أن هذا الإحساس مازال يغالبه. في الشركة الأمريكية اتي يعمل بها تقابله السكرتيرة الأمريكية الجادة ولأنها لم تبتسم له يقول" "ألست أبيض بما يكفي لتريني أسنانك الؤلؤية؟"

 

وعندما سأله مديره الجديد عن اسمه "سال" والذي ينادونه به في لندن لأنه بدى لمديره أنه اسم إيطالي، "أجاب سالم بحذر: "لست من هنا تحديداً. أنا فلسطيني تستطيع أن تقول أني من إسرائيل

 

وبعد نجاحه في عمله وتوقعه بأن يحصل على منصب مدير عام إلا أنه لم يستطع الحصول إلا على نائب مدير لأنه عربي ويجب أن تبقى الشركة الأمريكية دوماً بإدارة أمريكية. هذا الموقف جعله يعاني ويتنقل من وظيفة لأخرى، ولا يستقر، لأن نظرته دوماً لنفسه أن الجميع يعامله بدونية لأنه عربي فلسطيني. 

 

كثيرة هي المواقف التي تصورها أحداث الرواية للصراع الذي عاشه سالم بين أن يكون عربياً فلسطينيا، وبين ما يريد أن يكونه، تصور الرواية أن الأحداث والصدمات التي مر بها الطفل الفلسطيني جعلت منه إما منتقصاً لذاته وإما مجرماً يناهض عملية السلام، يعيش في صراع داخلي لا يستطيع أن يتقبل البشر لإنسانيتهم، نظرية المؤامرة تحاصره، يعيش فقط من أجل التراب كما قالت أم سالم له يوماً "الإسرائيليون همهن عَلَمهن والفلسطينيون همهن التراب"


اقرأ في هذه المدونة جنتلمان في موسكو .. رواية التحول (انقر هنا)


وبالمقابل نرى جوديث المرأة اليهودية المحبة التي ظلت تفي بوعدها أن تحترم وتفتخر بعروبة زوجها، ويهوديتها، تحاول دوماً أن تنتشل زوجها من احساسه بالدونية إلا أنه غارقاً فيها،  استطاعت أن تكون انسانه حقيقية لا تدخل هذه الصراعات في علاقتهما، إلا أن سالماً لم يستطع ذلك، فسيكولوجيته عربية مشتتة، يهتم بحديث الآخرين عنه، يخاف أن يُنظر إليه كخائن، أولاً خان نفسه بتناسي أصله، خان عروبته بزواجه من يهودية، العربي إذا لم يستطع الحصول على كل شيء فهو يهدم كل شيء.  

 

بالرغم من تصوير وحشية الاحتلال وجرائمه في الرواية، إلا أنها في نفس الوقت تصور أن الفلسطيني ساعد في هذا الظلم وهذا الاحتلال، فقد باع أرضه، وإن لم يبعها فقد خانه جاره وباعها. أما اليهودي المهاجر فكان مجرد شخص يطبق النظام الجائر الذي فرضه الاحتلال، ولكن في الأخير يطبق النظام، أما الفلسطيني فحتى حقوقه لا يعرف يطلبها بالطرق الصحيحة، فعندما أراد أن يسترجع سالم بيت أبيه بالنظام، وعرض عليه صديقه المحامي "إيليا" المساعدة، وإيضاح أن الطريق صعب ولكن يمكن أن يتحقق بالنظام إلا أنه استعان بأصدقاء قاموا بما لا يتوقعه من أعمال شغب واستخدموا طرقاً غير شرعية مناهضة للقوانين أدت إلى أن يخسر سالم منزل أبيه للأبد كما ذكرت سابقاً.

 

ما تفسير تصوير البناء النفسي، والاجتماعي للفلسطيني بهذه الصورة؟ هل هو تصديقاً لمقولة "لا دخان بدون نار"؟

 

جدير بالذكر أن رواية برتقال إسماعيل وصلت إلى المرحلة النهائية لجائزة نادي المؤلفين لأفضل رواية أولى لعام ٢٠١٥، وتم ادراجها في القائمة القصيرة لجائزة Wingate الفصلية اليهودية عام ٢٠١٦.


برتقال اسماعيل | كلير حجاج | ترجمة نوف الميموني | دار أثر للنشر والتوزيع


لمتابعة منصات حرم الجمال (انقر هنا)


تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

باهَبَل مكة Multiverse - رجاء عالم

عالم صوفي * .. رحلة تطور الفكر الإنساني (٢)