التوليب .. رمز الحب والحياة




عشَّاق الجمال .. ها أنتم في حرم الجمال تنشدون منه المزيد، لذا سآخذكم إلى إحدى معاقل الجمال اللامنتهي والممتد على مد البصر. سآخذكم إلى حديقة كوكينهوف والواقعة في مدينة ليسه جنوب غرب العاصمة الهولندية الساحرة، الملهمة، مدينة الحياة أمستردام. يزور حديقة كوكينهوف خلال موسم التوليب والذي يمتد من منتصف شهر مارس إلى قبل نهاية شهر مايو ملايين السياح سنوياً وتعد إحدى أجمل حدائق العالم إن لم تكن الأجمل، وتغطي مساحة  ٣٢٠,٠٠٠ مترمربع تتجول خلالها بين سبعين مليون زهرة، تعرض ما  يقارب من٨٠٠ نوع من زهور التوليب الباذخة و التي طالما كانت رمزاً للحب في الأدب وسير الكتاب والشعراء.

أسير في أروقة هذه الحديقة كأني سائر في حلم، تحيط بي ألف ألف زهرة توليب، تلك الزهرة الرقيقة، الفاتنة، والتي تراها ملتفة على ذاتها وكأنها صبية تكبت مشاعرها خجلاً حتى يطغى الشعور ويثور فتراها تتفتق أنوثة ودلالاً تنثر حباً وشذى يعبق به المكان فيتسلل إلى الأنفاس، يتحد بالروح ويشعرك بالحياة.

هناك ألح عليّ السؤال، ماذا يربط التوليب بالعشاق؟ تبادر إلى ذهني ربيعية هذه الزهرة، فكل عاشق لا يتمنى أكثر من أن يبقى حبه في ربيع سرمدي! تبادر إلى ذهني بوعي أو بدون وعي أن الحب قد يكون كزهرة التوليب ربيعي، وفاتن لكنه أيضاً كزهرة التوليب له وقت بذار، ينمو، يهدينا السكينة والجمال ثم يضمر يتهالك ويزول، فلا يبقى لنا سوى إنتظار موسم جديد..

بادرتني فكرة، لعل في تأمل العاشق للتوليب درس وعبرة، مفادها أنه يا أيها العاشق تنبه لحبك وفّر له أسباب الحياة، وفر له بيئة تناسبه وكأنك ترعى زهرة توليب تريد منها أن تصمد في غير موسمها، تركها للطبيعة وحسب ولقسوة الوقت حتماً يؤذيها، لا تقف تشاهد عوامل موت الحب تتصاعد، تشهد دنو أجله وقرب احتضاره ولا تحرك ساكناً ...

مأخوذ بهذا السحر، منتشياً بشذى المكان، لا تنفك عني الخواطر والأفكار تجول بذهني  ملحّة، تتبادر إلى ذهني تباعا، أتأمل آلاف الزوار والعشاق هنا، أسررت لنفسي أن الإعتقاد بأن هذا المكان لا يأتيه إلا العشاق فقط هو عنصرية ظالمة، لا بد أن لضحايا العشق فيه مكان، فكم من جريحِ هوى، وكم من مقتول يمشي بين الناس بلا روح، كثير هم من فاتهم الأوان وغفلوا عن حبهم وتركوا لقسوة الطبيعة أن تأخذ مجراها فما كان للحب إلا الذبول حتى الموت. فهؤلاء لهم في هذا المكان حق كالعشاق تماماً، لهم في تأمل التوليب سلوى، وفي التفكر في دورة حياته بصيص أمل لأنه يقيناً و إن ذبل سيأتي موسم جديد تتفتح فيه الحياة متلونة تماماً كزهرة التوليب، ستكون الحياة كهذا المكان ليس لغير الجَمَال فيها مأوى ومسكن .. ها هي غادة السمان تجعل التوليب مرادفاً للحياة في نصها توليب أمستردام قائلةً:

في مقهى "فان غوغ" على ضفة القنال التقينا.
مددتَ يدك وشققتَ صدري
بأظافرك الموسخة بأصباغ اللوحات،
وتناولت قلبي ورميت به إلى القطط لتلتهمه،
وتركتَ لي مكانه زهرة توليب حمراء...
وقلت لي: ذوقي الحياة الآن!

تذوقوا الحياة وحسب...








ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جميع الصور تم التقاطها بعدستي، موسم عام 2015 

تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

رواية خرفان المولى (نظرة تحليلية للبنية النفسية للنص)

باهَبَل مكة Multiverse - رجاء عالم