من حياة الأدباء | ٠٩ | ايزابيل الليندي


 

"أحتاج أن أروي قصة؛ إنه هاجس. كل قصة هي بذرو في داخلي، تنمو وتنمو، مثل ورم، ويجب أن أتعامل معها عاجلاً أو آجلاً. لماذا قصة بعينها؟ أنا لا أعرف ذلك حينما أبدأ. ولكني أعرف ذلك لاحقاً". 

 

لاحظوا الفرق بين الكتاب في شرارة الكتابة، توني موريسون تقول إنها تبدأ عند تكوُّن فكرة تفرض عليها سؤالاً صعب الإجابة، وبصرامة تامة تعرف الشخصيات وكيف ستنتهي الرواية، أما ايزابيل الليندي هنا تحركها الرغبة في أن تروي قصة، وتدع تيار هذه القصة يأخذها حتى تتبلور. تقول "عندما أبدأ بكتابة كتاب، فأنا لا أملك أدنى فكرة إلى أين سيذهب. أنا فقط أعرف بأنني أريد – بشكل رقيق وخفي – أن أوقع تأثيراً في قلب القارئ وعقله". 

 

هذه هي ايزابيل الليندي أكثر الكتاب المحبوبين في أمريكا اللاتينية، الروائية التي كتبت لنا بيت الأرواح، الرواية التي جعلتها في طليعة كتاب أمريكا اللاتينية، فهي روائية تشيلية، ولدت في البيرو وعاشت مدة طويلة في فنزويلا، وأقامت فترة في لبنان، والآن تعيش في أمريكا. هذه التنقلات الكثيرة،  نتيجة حياة متقلبة فقد مرت حياتها بعديد من المراحل والمنعطفات، فوالدها تخلى عنها وعن أسرته وهي في سن الثالثة، مرت بلدها تشيلي بانقلاب عسكري أطاح بابن عم والدها الرئيس التشيلي سليفادور الليندي، ففرت إلى فنزويلا، توفيت ابنتها وهي في سن الثامنة والعشرين. أحداث مأساوية كثيرة جعلت كتاباتها إنسانية، تروي حكايا المستضعفين وخاصة من النساء، تروي حكايا الغربة وتطرح أفكاراً قد تكون مفزعة، ولكن تضعها في قالب الواقعية السحرية التي تتميز به أمريكا اللاتينية. 

 

الكتابة بالنسبة لإيزابيل الليندي هي المنقذ، هي المنظم لفوضى حياتها؛ تقول " الكتابة دائماً ما تعطي شكلاً من النظام لفوضى الحياة. إنها تنظم الحياة والذاكرة". لذلك هي تكتب. بدأت مشوار الكتابة برسالة، والرسائل هي أكثر أشكال الكتابة إنسانية، فعادة ما تكون مخبأً للمشاعر، فحينما وصلها اتصال يخبرها بأن جدها الذي تولى رعايتها يحتضر كتبت له رسالة تخبره بأنه في قلوب كل من تركهم خلفه، فكانت هذه الرسالة هي شرارة رواية بيت الأرواح، فتطور النص ليروي حكاية عائلة تشيلية من خلال كفاح نسائها، وقد نشرت هذه الرواية في عام ١٩٨٢. ولاحظوا العمر الذي كتبت فيه أول أعمالها، كانت في الأربعين من عمرها وحينما حمل إليها البريد خمس نسخ منها شعرت بالخوف من أن يفتضح سرها وخبأتها في درج المكتب وبعد أسبوع وإذ بصورها بجانب ماركيز ويوسا. فالكتابة والمجد ليس لهما عمر، العمرعائق نضعه في أذهاننا فقط، ولكن عند الرغبة والالتزام والانضباط سيجد الإبداع والإنتاج طريقهما.

 

حينما أتاها هذا الاتصال وشرعت في كتابة هذه الرسالة لجدها كان التاريخ هو الثامن من شهر يناير ١٩٨١م، وبعد هذا الاتصال وكتابة الرسالة في هذا التاريخ أصبحت ايزابيل الليندي لا تبدأ في تأليف كتاب أو رواية جديدة إلا في الثامن من يناير. ما أشد هذا الانضباط، أكثر من أربعين عام ولا تبدأ في الكتابة إلا في الثامن من يناير. تقول واصفة ليلة السابع من يناير؛ أي ليلة التجهيز لبداية الكتابة " كل سنة في السابع من يناير، أبدأ بتجهيز مساحتي الملموسة. أخليها من كتبي الأخرى وأبقي على المعاجم، والمسودات الأولى، والمواد التي تحتوي على بحوث العمل الجديد. وفي الثامن من يناير أخطو سبع عشرة خطوة من المطبخ باتجاه الملحق الصغير المقابل للمسبح حيث مكتبي، هذه الخطوات هي بمثابة رحلة إلى عالم آخر. إنه الشتاء، وعادة ما يكون الجو ممطراً، أمشي بمظلتي وكلبي يتبعني. من هذه الخطوات السبعة عشرة أنا في عالم آخر، أنا شخص آخر". 

 

تخيلوا هذه الدقة، هذا الانضباط، حتى الخطوات قامت بحسابها وهكذا هي في كتابتها وانضباطها، لاحظوا وجود المعاجم، فإيزابيل تهتم جداً بالكلمات التي تستخدمها في كتابتها، انتقائية مع اللغة، تقرأ جملها بصوت عالي، تحذف الكلمات المكررة أو الزائدة تأخذ في بالها دوماً أن أعمالها تترجم لأكثر من خمسة وثلاثين لغة، لذلك تهتم بحوارات شخوصها، حتى بعد أن تترجم كتبها بالإنجليزية تراجعها على حد قولها سطر بسطر، لو وجدت كلمة لم تترجم بالطريقة التي قصدتها تعود وتبحث في المراجع والمعاجم للكلمة المناسبة التي تصف الشعور الذي قصدته. فموضوع اللغة عندها حساس لذلك هي لا تكتب إلا بالإسبانية. تقول: "بالنسبة لي تحدث عمليات السرد في الرحم، وليس في الدماغ. إنني أحلم، وأعد، وأمارس الحب، وأكتب الخيال، بلغتي الأم". وتوضح سبباً آخر وتقول: " في اللغات الرومانسية مثل الاسبانية، الفرنسية أو الإيطالية هناك طريقة مزهرة لقول الأشياء لا تجدها في الإنجليزية. لاحظوا الوصف -مزهرة- فالإنجليزية لغة جامدة لا تجد فيها هذا الازهار الذي تجده في لغتها الاسبانية. وحتى تتضح الصورة أكثر أقتبس لكم قول بَهارتي موكْرجي وهي كاتبة وروائية أمريكية من أصل هندي تقول: "ليس في الإنجليزية مفردات تمد ظلالها لذوي القربى في العائلة الممتدة، فالأعمام والأخوال، والعمات والخالات ليس لهم ما يميز قرابتهم تجاه الأب أو الأم، وكأن الأمر يبدو غير مهماً". هكذا هي الإنجليزية جامدة لا تهتم بالتفاصيل. 

 

أما أحب الروايات إلى قلبها فهي رواية باولا والتي تسرد فيها سرداً عاطفياً الوفاة المأساوية لابنتها، تقول توفيت ابنتي في السادس من ديسمبر ١٩٩٢. في السابع من يناير ١٩٩٣ قالت أمي: غداً هو الثامن من يناير، إذا لم تكتبي، سوف تموتين. تقول أعطتها أمها الثمانين والمئة رسالة التي كتبتها لها عندما كانت باولا في غيبوبة، وبدأت في الكتابة. 

ها هي تعود معنا الرسائل من جديد، هذه المشاعر التي تُخط في الرسائل وفي أكثر لحظات الانسان قتامة تكون هي المنقذ، لاحظوا قوة الكتابة ودورها في أن تكون جليساً وأنيساً ومنقذا لنا.

 

نلاحظ في كتابات ايزابيل أنها تتناول شخصيات من ثقافات مختلفة، شخصيات بعيدة كل البعد عن ثقافتها الأصلية، ففي رواية العاشق الياباني، كانت علاقة هذا العاشق الياباني هي علاقة بامرأة يهودية. فهي تحب التحدي وتحب أن تجرب الكتابة بصور عديدة، وعن مواضيع مختلفة. عندها ثقة كبيرة بخيالها الذي يجعلها تستطيع أن تكتب في كل شيء على حد قولها. تقول" أنا ككاتبة أستمع للآخرين بعناية، أطلب من الناس أن يرووا لي قصصهم، أحترمهم، أرى انسانيتهم، لا أحد يظل غريباً حينما تقترب منه".

 

ايزابيل الليندي تعيش حالة شخصياتها، وتتأثر بهم وتعيش مع شخصياتها وكأنها بينهم، تقول" أن تستعبدك حكاية، فهذا مرض. إنني أحمل القصة في داخلي طوال اليوم، طوال الليل، في أحلامي، وفي جميع الأوقات. وهذا الشعور الذي تكتب به أصابها في يوم ما بالمرض فعلاً وهذا يذكرنا بفلوبير عندما قال "حينما وصفت تسمم مدام بوفاري شعرت بطعم الزرنيخ في فمي"، فهكذا ايزابيل، خلال كتابتها لرواية الجزيرة تحت الماء أصيبت بالمرض حتى ظننت من مواصلة التقيؤ أنها مصابة بسرطان المعدة، حتى أنها لم تستطع أن تستلقي وكانت تنام جالسة، قال لها زوجها " إنه جسدك يتفاعل مع القصة، عندما تنهين الكتابة ستكونين بخير" وهذا ما حدث بالضبط. 

 

ولكن عزيزي الكاتب عزيزي المستمع هل تتخيل أن كاتبة غزيرة الإنتاج منضبطة كل هذا الانضباط، مثل ايزابيل الليندي تصاب بحبسة الكتابة؟ نعم. هذا طبيعي. فبعد كتابتها لباولا ظلت ايزابيل لمدة سنتين، تخيل سنتين لم تكتب شيء، ذهبت في رحلة تحاول شحذ طاقتها ثم عادت إلى الوطن، ولكن ما زالت غير قادرة على كتابة الخيال، حينها قررت أن تجد حلاً، فكتبت في شيء غير الخيال فكتبت كتاب "افروديت" وهو كتاب في الأدب الواقعي. فهذه احدى نصائحها، فعندما تصاب بحبسة الكتابة في الخيال حاول أن تكتب في شيء آخر حتى تعود الطاقة من جديد. وحبسة الكتابة هي احدى مخاوفها الكبرى وتشبهها بابتلاع الرمل تقول إنه أمر مروع، فهي لا تنوي يوماً أن تتوقف عن الكتابة تقول "رأسي وقلبي مليئان بالقصص. لا أنوي الاعتزال، ولكني سأتوانى في مرحلة ما. وهذا ما لا نتمناه فقد كتبت ايزابيل الكثير وما زلنا نتمنى أن يتواصل هذا العطاء.

 

للاستماع إلى النص عبر منصات حرم الجمال (انقر هنا)

 

 

تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

الخوف

الطوارق