من حياة الأدباء | ٠١| أونوريه دي بلزاك


 

"لقد أدانتني كل النساء. لقد عقدت العزم على الانتقام من المجتمع؛ كنت سأهيمن على الفكر الأنثوي، وسأجعل الروح الأنثوية تحت رحمتي"

 

هكذا يصف حاله أحد أبطال روايات بلزاك موقفه مع النساء وهذا ما يعكس روح الشاب الفرنسي المولود في عام ١٧٩٩م، وهذه الروح، لعل لها قصة ساعدت على تكوينها، بالرغم من أنه شاب له كثير من الصداقات إلا أنه لم يكن محبوباً من النساء ولعل قصر قامته لعب دوراً في ذلك، وفي أحد الأيام حاول أن يأخذ دروساً في الرقص حتى يتمكن من لفت أنظار النساء، دخل قاعة الرقص وسط حشد من النساء، لينزلق بعد دخوله بلحظات ويسقط، فكانت السخرية والضحكات التي تلقاها لا تغيب عن ذاكرته، ومنذ تلك اللحظة لم يرقص بلزاك في حياته. 

 

أما بلزاك الطفل فلم يحظ برعاية أبوية وأُدخل إلى مدرسة داخلية لم يستطع الخروج منها حتى في أيام العطل، وعندما شب عمل في مؤسسة قانونية في باريس جعلته يقترب أكثر من عالم الخداع والجشع، وبدأ في تكوين صورة عميقة عن النفس البشرية في الأحوال المختلفة. وهكذا بدأت تجارب حياته في صقل أفكاره التي أراد أن يكرسها في أعماله حينما قرر أن يكون كاتباً. 

 

ولكن هل قوبل هذا القرار بالترحيب؟ بالطبع لا؛ عارضت والدته هذا القرار بشدة، أما أبوه فأعطاه فرصة لمدة عامين إما أن يثبت أنه كاتباً بالمقام الأول، والأهم من ذلك أن يحصل على قوت يومه بهذه المهنة.  وإلا سيعود لرغبة والديه في ممارسة مهنة المحاماة. وحتى يتفادى أبويه الاحراج من هذه المهنة التي يريد ابنهم أن يمتهنها، استأجروا له شقه صغيرة في باريس بالقرب من مكتبة عامة وأخبروا الجميع بأن ابنهم غادر باريس لزيارة أقاربه. 

 

تخيلوا هذا الإحراج وهذه الوسمة التي كان يخاف منها الأهالي إذا فكر ابنهم بمهنة الكتابة، فمهنة الكتابة لا تؤدي إلا الى الفقر حتى وإن حالفك الحظ وكنت ناجحاً. ولكن من وجهة نظر بلزاك فقد وصف هذه الرحلة، أي رحلة العزلة من أجل الكتابة اذ قال " كان من دواعي سروي أن أبحر في بحيرة منعزلة، مليئة بمياهها الصافية، مع الغابات والصخور والزهور المحيطة بها، والإثارة الناعمة للنسيم الدافئ في غرفة علية غير مريحة، مع القليل من المال الذي يكفي لتناول أكثر من قطعة خبز في معظم الأيام" 

 

بدأ بلزاك بالمسرح وبعد عام ونصف خرج بمسرحية عنوانها كرومويل. 

تخيلوا معي المشهد، الآن يعود بلزاك من انقطاعه وعزلته في تلك الشقة، سنة ونصف وهو يجتهد بالخروج بعمل أدبي يثبت به لوالديه قدرته على الكتابة وعلى امتهان هذه المهنة. اجتمعت العائلة، وحضر أحد معلميه لتقييم العمل، وبلزاك بكل فخر يقرأ لهم مسرحيته، وعمله الذي يعتقد في مخيلته أنه تحفة فنية، والعائلة تستمع في صمت، انتهى بلزاك من قراءته، وبعد حين كانت الصدمة، قال معلمه "على بلزاك أن يفعل أي شيء إلا الأدب." وأصرت والدته على عودته للمنزل مباشرة وأن يتخلى ابنها عن هذا الحلم. 

 

ولكن هل حطمت هذه الآراء من عزيمة بلزاك؟ لو استجاب لهذه الآراء، لو لم يثق بقدرته وموهبته لما كنا قد سمعنا عن بلزاك اليوم. ولكن واصل الكتابة تخلى عن المسرح واتجه للرواية، طارد حلمه، وحدث نفسه قيم قدراته، حدث نفسه لعلي لم أكن جيداً في المسرح لماذا لا أجرب الرواية؟ كتب عدة روايات بأسماء مستعارة حاول، وحاول واستمر إلى أن نشر في عام ١٨٢٩ رواية الشوان، أول رواية بإسمه، لاقت نجاحاً جعله يستمر ويطور من قدراته، وفي عام ١٨٣٢ صدرت له رواية قصيرة بعنوان كاهن تور، وبدأ مع الوقت تتبلور في مخيلته فكرة تصوير المجتمع الفرنسي فبدأ بعمل الملهاة أو الكوميديا الإنسانية والتي يجانس بها عمل دانتي الكوميديا الإلهية، هذا العمل أعطى صورة بانورامية للمجتمع الفرنسي، خلد به مجتمع القرن التاسع عشر في فرنسا، ساعد عمله في المؤسسة القانونية على تصوير المجتمع بوصف دقيق للطموحات، للجشع، لهذا. المجتمع الذي يزداد فيه الثري ثراء، والضعيف يزداد وهناً حتى يسحق، في هذا العمل تظهر دقة ملاحظة بلزاك في تصوير أدق التفاصيل، في الملابس في الأثاث، وفي كل شيء، لذلك استحق هذا العمل أن يوصف بأنه لوحة جدارية بالكلمات. فتألفت الملهاة الإنسانية في الأخير من تسعين رواية ونوفيلا وقصة قصيرة تقريباً. وبذلك أصبح الشاب الذي وصفه معلمه بأنه صالح لكل شئ إلا الأدب هو أحد مؤسسي الواقعية الأدبية. وتوالت الأعمال التي تشهد على نجاح بلزاك في مسيرته الأدبية كالأب غورو ١٨٣٧، المجلدات الثلاث لأوهام لويس والتي نشرت في الأعوام ١٨٣٧، ١٨٣٩، ١٨٤٣ ، ابنة العم بيت ١٨٤٦، وابن العم بونس ١٨٤٧. 

 

يقول سلامة موسى في كتابه "الحب في التاريخ": ليس في القرن التاسع عشر من يفوق بلزاك في فرنسا في الفن القصصي". ويقول أيضاً إن بلزاك " أقرب المؤلفين إلى المزاج الروسي... وربما يمتاز بلزاك أيضاً على كثير من أدباء روسيا، بتنوع أسباب العيش التي يعيش بها أشخاص قصصه".

 

يقال أن بلزاك كان يكتب لمدة خمس عشرة ساعة في اليوم وكان مشروبه الأعظم الذي يعطيه هذه الطاقة هو القهوة، فكان بلزاك يدعي أنه يشرب ما يصل إلى خمسين كوباً من القهوة في اليوم، لا أعلم ماهي نوع قهوته ولكن لا انصح أي منكم أن يجرب ذلك بالطبع. فقد كان يصف القهوة ويقول "القهوة أعظم مشروب في حياتي، لقد لاحظت عملية تكونها كما لو كانت صورة ملحمية. كما أن تحميصها يتم في داخلك"

 

تآمرت العلل على بلزاك وأصيب بعلل مختلفة كأمراض الأعصاب والقلب، والحمى، إلى أن توفي وهو في الحادية والخمسين نتيجة الإلتهاب الرئوي وبهذا انتهت مسيرة أحد عظماء الأدب في عام ١٨٥٠ للميلاد. 


                                               

                                      للاستماع إلى النص عبر منصات حرم الجمال (انقر هنا)


 

 

 

 

 

تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

الخوف

الطوارق