من حياة الأدباء | ٠٣ | غوستاف فلوبير



 "الكتابة مهنة الضعفاء والمجانين. أنت خُلقت لتمسك المشرط لا القلم"

هذا كان رد فعل والد غوستاف فلوبير عندما مزق أول قصة كتبها ابنه، فكان ذلك الجراح الشهير المدعو آخيل سليوفاس لا يرى في ابنه سوى أن يكون جراحاً مثله. وبالمقابل كانت أمه قارئة نهمة ولا تخلو مكتبتها من الروايات والقصص فتأرجح فلوبير بين صرامة والده وعطف أمه وتقديرها للأدب وهذا مما جعله مترددا في شخصيته، فقد كتب في يوم من الأيام لعشيقته لويز كوليه "كنت ذلك الانسان الذي بلا هوية ويريد الآخرون أن يشكلوا له حياته".

حاول أن يكتب فلوبير وهو في سن صغيرة وكان كاتبه المفضل فيكتور هيغو وشاءت الأقدار أن يزوره في يوم ما، فكتب لوالدته فرحاً بهذا اللقاء "أخيراً استمتعت برؤيته عن قرب، فحدقت به مشدوهاً كما أحدق في إناء مملوء بملايين الجواهر الكريمة متأملا كل صغيرة وكبيرة تصدر من هذا الرجل الذي يجلس بجواري على مقعد صغير، مدققاً النظر في يده اليمنى التي كتبت كل تلك الروائع الجميلة قائلاً لنفسي هذا هو الرجل الذي جعل قلبي ينبض أشد نبض عرفته منذ ولدت والذي أحببته أكثر من جميع من أعرف.

عاش فلوبير في رخاء مادي وكأي شاب من هذه الطبقة في ذلك العصر أُرسل لدراسة القانون، ولكنه لم يجد أي شغف في هذا التخصص، كتب لأحد أصدقائه "سوف أدرس في كلية الحقوق وأتخرج محامياً. ولكنني لن أشتغل في مهنة المحاماة إلا إذا طلبوا مني الدفاع عن مجرم كبير. وأما فيما يخص الكتابة، فإني أراهنك على أني لن أصبح كاتباً ولن أطبع حرفاً واحداً". 

 هذا التردد والشك في قدراته كان نتيجة لعنة المثالية المصاب بها، فقد كانت عائقاً في طريق كتابته، فقد عُرف عنه أنه كثير التدقيق فيما يكتب، يريد أن يصل لمرحلة الكمال، فالصرامة التي تربى عليها من قبل والده بالإضافة إلى المدرسة الداخلية التي ألحق بها والتي عُرف عنها صرامتها العسكرية جعلت منه شخصاً يبحث عن الكمال. فكلمة واحدة تستغرق منه وقتاً طويلاً، فقد كان يقضي ثلثي الليل للبحث عن الكلمة المناسبة، وهذا ما أدى لقلة انتاجه مقارنةً بأقرانه. تقول دورثي باركر "الملعون فلوبير يتدحرج على الأرض لمدة ثلاثة أيام ليبحث عن الكلمة الصحيحة". كان يكتب الجملة ويحاول أن يزنها وكأنها مقطع شعري، ثم يقرأها بصوت عالٍ، وينقحها يحذف الكلمة الثقيلة أو الألفاظ المتكررة أو ما يراها غير ضرورية، فكان يتذمر هو نفسه من هذا ويقول إنه قد يقضي ظهيرة كاملة في تصحيح كلمتين، ويشعر بألم حينما يحذف جملة أخذت كتابتها وتنقيحها عدة أيام. وصفه الناقد والتر بيتر بأنه شهيد الأسلوب الأدبي، وهنري جيمس قال عنه أنه لم يشعر بشيء في عمله سوى الصعوبة. 

كان يكتب لساعات طويلة، وفي اليوم التالي يمزق كل ما كتبه وفي يوم من الأيام كتب قصة بعنوان البائسون، قرأ القصة على لويز كوليه، وما ان انتهى من القراءة قذف بالأوراق من النافذة وصاح: هراء.. كل ما أكتبه هراء، متى تبدأ يا فلوبير بدايتك الحقيقية؟ حينها نصحته كوليه: يجب أن تعدل تماماً عن كتابة موضوعات غامضة، خذ موضوعا من الواقع. ألم تقرأ في الصحف عن حكاية مدام دلفين ديلمار؟ إنها تستحق عملاً ممتازاً. لو كنت أمتلك موهبتك لما ضيعت هذه الفرصة. 

كم هو ضروري أن نحاط بأشخاص يثقون بمواهبنا عند حالات التشكك التي تصيبنا أو عدم تقدير ذواتنا بشكل كافٍ، كم من الموهوبين والمبدعين، ابداعهم لم ير النور بسبب علة البحث عن الكمال ولكن لحسن حظ فلوبير كانت هناك لويز كوليه التي أعطته هذه النصيحة وقالت له لو كنت أمتلك موهبتك لما ضيعت هذه الفرصة. 

من هنا تبدأ قصة العمل الخالد لفلوبير "رواية مدام بوفاري". بدأ يبحث فلوبير عن قصة السيدة ديلمار، وهي سيدة تعيش حلم الروايات الرومانسية تزوجت من يوجين ديلمار، وفي البداية اعتقدت أنها تزوجت من فارس أحلامها، واعتقدت أنها ستعيش حياة الروايات الرومانسية إلا أن واقعها كان مع رجل لا يملك الطموح، فاشل وثقيل الظل، استمعوا لوصف فلوبير لهذا الرجل " كان حديثه مسطحاً مثل رصيف الشارع، إنه لا يستطيع السباحة، لا يستطيع المبارزة والإمساك بسلاح ناري، مشاعره عادية، يعانقها في أوقات محددة، وأصبح الجلوس معه غير محتمل، يحلو له أن يلتهم الطعام الذي أمامه بشراهة، ثم يذهب إلى الفراش ليستلقي على ظهره ويشخر" 

هذه الصدمة أدخلت السدة ديلمار في دوامة فأهملت زوجها وابنتها وجميع من حولها، دخلت في حالة من الملل والاندفاع الأهوج، أفلس زوجها، عشاقها تبخروا فقررت أن تتناول جرعة مميتة من الزرنيخ لتنهي حياتها بلا أي طعم أو روح. 

كان فلوبير مقتنعاً بأن هذه القصة قد تُظهر موهبته الأدبية، إلا أن موضوعها حساس وأمه خافت أن تتم مقاضاته بسببها، فحاول اقناعها بتغيير الأسماء وأصبحت السيدة ديلمار "مدام بوفاري" 

سار العمل ببطء أخذت كتابة هذه الرواية منه ما يزيد عن خمس سنوات، درس خلالها كل ما يتعلق بالسيدة ديلمار؛ ماذا قرأت من روايات، وعن تأثير مادة الزرنيخ التي تناولتها، عمل كمحقق أخذ شهادات الجيران وتحدث إلى معارفها، ذهب لقريتها وتقصى عن أدق التفاصيل في مراكز الشرطة. 

يظهر لنا من هذا المجهود أن الأعمال الخالدة كم تحتاج من جهد، حينما كان يتحدث لأمه كان يقول يا لها من مهنة صعبة مهنة الكتابة! القلم أشبه بمجداف ثقيل. يا الله كم هذا الوصف يعبر عن المجهود الذي يبذله، فتخيل أنه يعمل لمدة تزيد عن سبع ساعات في اليوم لمدة خمس سنوات، ومن تأثره بهذا العمل أصيب بالمرض؛ يقول: "عندما كنت أصف تسمم إيما بوفاري كنت أحس بطعم الزرنيخ في فمي، وقد عرضني ذلك إلى آلام في المعدة وسوء الهضم رافقني طوال حياتي" 

انتهى من الكتابة، لكنه لم يحاول أن يقرأ الرواية على المقربين منه، وكتب إلى أمه " أشعر بأنني كتبت عملاً كبيراً، لا أريد أن أعرضه على هواة تحطيم الأدباء وحفاري قبور الأعمال الفنية، سأذهب بالمخطوطة إلى الناشر". وهذه خطوة مهمة لأي كاتب لا تعرض عملك على من لا يقدر قدراتك وموهبتك، وبعد ذلك المجهود كان فلوبير في حالة لن يحتمل فيها أي احباط.   

ذهب إلى الناشر الذي كان للأسف أحد حفاري قبور الأعمال الفنية، قال له الناشر: من يشتري رواية اسمها مدام بوفاري؟ وطلب منه تعديلات على الأحداث، حينها قاوم فلوبير رغبته في صفع الناشر، وطلب منه بكل هدوء أن يعيد له المخطوطة. 

ذهب بالرواية إلى صديقه مكسيم دو كامب الذي نشرها في مجلة ريفيو دو باريس على أجزاء، لكن الرواية أثارت سخط الناس وحدث ما توقعته أمه ووجه المُدّعون العامون الفرنسيون تهم الفحش ضد فلوبير، وبعد محاكمة علنية تمت تبرئة فلوبير في السابع من فبراير عام ١٨٥٧. 

نشرت الرواية وحققت انتشاراً واسعا وأرسل إليه كاتبه المفضل فيكتور هيغو تهانيه الحارة وإعجابه الشديد بالرواية.

نشر فلوبير العديد من الأعمال بعد مدام بوفاري وأثر في كثير من الأدباء كهنري جيمس، وفرانز كافكا، وجان بول سارتر، ويعد أحد مؤسسي الرواية الحديثه. 

توفي فلوبير في عام ١٨٨٠ بعد أن أعطى للأدب والكتابة روحه وجسده، كتب في احدى مراسلاته لصديقته جورج ساند "الآلام التي تسري في الجسد وفي الروح مردها الكتابة، تلك المهنة السحرية. معنى الروح والجسد" 


 للاستماع إلى النص عبر منصات حرم الجمال (انقر هنا)

 

 

تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

الخوف

الطوارق