من حياة الأدباء | ٠٥ | وليام فوكنر

 


"لا تلق بالاً لأن تكون أفضل من أقرانك أو سابقيك. حاول أن تكون أفضل من نفسك".

هذا ما سعى إليه الكاتب الأمريكي وليام فوكنر- فبالرغم أنه لم ينل إلا تعليماً أساسياً فقط وفشل في تقبل العملية التعليمية سواء في المدرسة أو خلال مسيرته الجامعية القصيرة إلا أنه حصل على نوبل للأدب، وعدة جوائز أخرى، فكان صاحب قوة تخيلية هائلة أصبح بها أعظم روائي أمريكي في القرن العشرين. يقول فيلاديمير نابوكوف الروائي الروسي الأمريكي: "الأدب عبارة عن ابتكار، والكتابة القصصية تنبع من الخيال وحده. أن يقال عن قصة ما أنها حقيقية لهو إهانة للفن وللحقيقة في نفس الوقت". وهذا ما كان عليه فوكنر في كتاباته. 

ابتدأ فوكنر بكتابة الشعر ونشر أول مجموعة شعرية له عام ١٨٢٤م ولكن الشعر كان جنساً أدبياً لا يتمتع فوكنر فيه بالموهبة. ولكن بعد لقائه لشيرود أنديرسون تحول فوكنر بتأثير منه إلى الرواية. فكتب أول رواية له بعنوان راتب الجندي، ثم رواية البعوض عام ١٩٢٧. لم تثر هاتان الروايتان أي صخب في الساحة الأدبية أو بين الجمهور إلى أن كتب رواية الصخب والعنف التي يصفها جبرا ابراهيم جبرا وهو أول من ترجم لنا هذه الرواية باللغة العربية فيقول: "إنها رواية الأصوات المتعددة التي تمتليْ بالأفكار المتداخلة، والمتحررة من كل عبودية وخضوع لأي منطق، وتجريبية أيضاً من خلال علاقتها بالزمن. ترجمة الرواية للعربية أدخل تقنيات سرد جديدة للرواية لأنها رواية كتبت بطريقة جديدة ومبتكرة حتى أنها لم تلق قبولاً في بداية الأمر في زمنها. 

بطل الرواية معتوه يسمع، ولكن لا ينطق ولا يستطيع إلا الصراخ، ويروي أحداث لا يرتبها زمنياً فالأحداث القديمة والحديثة عنده سواء كلها بذات الأهمية، وكأنها تصوير لما كتبه شكسبير في ماكبث "إنها حكاية يحكيها معتوه، ملؤها الصخب والعنف ولا تعني أي شيء" وشكسبير عند فوكنر هو أبو الروائيين. في حوار قام به همنغواي عندما كان شاباً صغيراً مع فوكنر قال له: ألاحظ أنك أخذت الكثير من شكسبير فكان رد فوكنر "لأننا جميعاً معشر الكتاب قد تشكلنا بواسطة شكسبير، وتلك على ما أظن المفارقة، فالكلمات التي نستخدمها هي دائماً الكلمات نفسها التي اخترعها، كلمات لم تكن لتوجد في اللغة حتى صاغها هو، فشكسبير هو القانون الأول، شكسبير هو نحن أنفسنا". 

أعود معكم إلى الصخب والعنف مرة أخرى، هل تتوقعون أن الصخب والعنف حققت هذا النجاح مباشرة؟ تخيلوا أن الناشر رفض أن ينشرها لفوكنر وجعله يعيد كتابتها، وعندما نشرت كانت مبيعاتها محبطة، فمن ثلاثة آلاف نسخة بيع اقل من ألفين والبقية تكدست في المخازن. وهذا نتيجة أنها ابتكار جديد في السرد؛ والإنسان عدو ما يجهل، ظل النقاد يسخرون من سرد الرواية ومن كاتبها. كتب المحرر الأدبي للنيويورك تايمز ساخراً "ترى مالذي كان فوكنر أصلاً يريد قوله عبر هذه الصفحات التي خطها ووزعها في روايته الأخيرة؟ لقد بدا واضحاً أن السيد فوكنر لم يخلق ليكون كاتباً".

تخيلوا معي؛ أعظم كاتب في أمريكا والحاصل على نوبل نتيجة قوة تأثيره في الأدب الأمريكي قيل عنه يوماً ما لم يخلق ليكون كاتباً. وكن كفوكنر، فوكنر الذي يعرف ويثق بعمله، وهنا يكمن الفرق بين الكاتب العظيم والكاتب الذي لم يخلق ليكون كاتباً. يقول الناشر لفوكنر الناس تشكو من روايتك هذه، يقولون إنهم لا يفهمون منها شيئاً حتى بعد أن يقرؤوها مرتين أو ثلاث مرات، يجيبه فوكنر دون أن ينظر إليه " قل لهم أن يقرؤوها أربع مرات". 

ومن العجيب أن هذه الرواية التي لم يفهمها القارئ الأمريكي، ولكن بعد نشرها بعشر سنوات ترجمت للفرنسية ونشرتها دار غاليمار الشهيرة فتلقفها الفرنسيون وبيع منها أكثر من عشرة آلاف نسخة، وتحمس لها سارتر لدرجة أنه تمنى لو أن بروست قرأ الصخب والعنف؛ فهو يرى أن أبطال فوكنر ضائعون ولذلك فهم يخاطرون بأن يدفعوا بفكرهم إلى نهايته بعكس أبطال بروست فهم كلاسيكيون يلتزمون الحذر عندما يضيعون. وكتب عنها ألبير كامو أقل ما يمكننا أن نقول عن هذا الكاتب إنه رجل أمسك بسر الأدب وجعل لأمريكا أدباً تجابه به الأدب الأوروبي" 

وحين تحدث يوسا عن تجربته مع تأثيرات فوكنر، راح يقول: اكتشفته حين كنت شاباً وقد انبهرت من طريقته البارعة في تنظيم الحبكة، الزمن المتشابك وطريقته في توليد الأحداث، وهو ما دفع يوسا إلى التأكيد على أنه لا يوجد كاتب من أمريكا اللاتينية من الجيل الذي ينتمي إليه،  لم يتأثر بشكل مباشر بفوكنر.

وهنا سؤال مهم ما هو سبب هذا الاختلاف الكبير في التلقي بين القاريء الأمريكي والفرنسي؟ لماذا يُحتفى بها في فرنسا ويستهزأ بها في أمريكا؟ 

من هنا تتضح العلاقة بين القاريء والنص فكل قارئ يخلق علاقة متفردة مع النص، فإن كان النص جسداً فالقاريء هو الروح، ويتفاعل القاريء مع النص بحكم قدراته وخبراته السابقة والمحيط من حوله، فعلى حد تعبير فرجيينيا وولف "قراءة الرواية فن صعب ومعقد جداً. لا يجب أن تحوي قدراً كبيراً من الإدراك فقط، بل خيالاً جموحاً وجريئاً إن كنت تنوي الاستفادة مما يعطيك الفنان العظيم والذي يدعى بالروائي". وهذا بالضبط ما ينطبق على كتابات فوكنر فقد كتب هارولد بلو في كتابه لماذا نقرأ "أنا افترض أن قراءتك لواحدة من روايات فوكنر بكل ما لديك من حدة وعقل يقظ سوف يكون نوعا من التدريب في عملية الادراك أظن أن ذلك يمثل طريقة جديدة لايقاظ الشعلة الداخلية لانبثاق النور في أعماقك، أو لخلق تلك الرئة التي تتنفس وتجعل أنفاسك تتسارع أكثر. ليس بالضرورة أن قراءة فوكنر ستجعل منك شخصاً أفضل، ولكن من المؤكد أنها ستثير في داخلك أسئلة جديدة. إن فوكنر يشير لنا كيف يجب أن نفتح عقولنا بالتساؤلات والدهشة" 

مات فوكنر في عام ١٩٦٢ إثر مضاعفات سقوطه من على صهوة حصان، عاش خمسةً وستين عاما لم يتوقف خلالها عن مواصلة بحثه عن التجربة والابتكار في بنية السرد. 


للاستماع إلى النص عبر منصات حرم الجمال (انقر هنا)

تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

الخوف

الطوارق