من حياة الأدباء | ٠٤ | فرانز كافكا

 


"استوقفني عند البوابة وسألني: إلى أين اتجاهك أيها الفارس؟ أجبته "أنا لا أعرف بالضبط. بعيداً عن هنا. فقط بعيداً عن هنا. دائماً بعيداً عن هنا. وباستمرار. هكذا فقط يمكنني أن أصل إلى هدفي. سألني: واضح أنك تعرف هدفك جيداً؟ أجبته، نعم. أعرف هدفي جيداً سبق وأن أخبرتك به تواً بعيدا عن هنا هذا هو هدفي". 

هذا هو فرانز كافكا يعبر على لسان أحد شخوصه عن حالة الفرار والخوف التي تلازمه، كان الخوف بالنسبة لكافكا هو الاحساس المؤكد في الحياة. جعله الخوف شخصاً مراقباً متفرجاً. وقد امتص خوفه مقدرته على اتخاذ القرارات الفعلية الواضحة. لذلك كانت كتبه تتمحور حول إحساس غير مبرر، وحول الخوف الغامض من سوء الفهم. كان متوجساً إلى حد كبير؛ إنساناً وفناناً. يظل متيقظاً حذراً في الوقت الذي يحس فيه الآخرون الصم من وجهة نظره بالاطمئنان. 

ولكن ما السر خلف هذا الخوف؟ 

ولد فرانز كافكا في براغ عام ١٨٨٣، لعائلة ميسورة فتلقى تعليمه بالألمانية وفي مدارس مرموقة في براغ، وكان يتحدث التشيكية وتعلم اللاتينية، والاغريقية، درس القانون بإجبار والده حتى نال درجة الدكتوراة عام ١٩٠٦. أن يدرس الشخص تخصصاً حتى ينال درجة الدكتوراه يعكس اقتناع الشخص بهذا التخصص ويبدو أن كل شيْ كان رائعاً وعلى ما يرام.  إلا أن الأمر مع كافكا مختلف تماماً كانت دراسته تسليماً وإيماناً بعدم امتلاكه الحرية يقول " كنت أعرف أنه لاتوجد حرية حقيقية في اختيار المهنة". هذه الفكرة، فكرة القوة التي تسير الانسان ولا يملك عليها سلطة تظهر في كتاباته، ففي رواية المحاكمة فهناك شخص مذنب لا يعرف طبيعة أو سبب هذا الذنب، هناك قاضٍ وقانون ومحكمة إلا أن الوصول إليهم يبقى متعذراً عليه، شأنه شأن الانسان البائس، الذي أجبر على الحياة دون أن يريدها. فهناك سلطة تتحكم فيه، وشقائه في انقطاع الصلة بينه وبين تلك السلطة. ولعل تلك السلطة التي تتحكم فيه هي سلطة أبيه.

كانت علاقة كافكا بأبيه مضطربة فقد كان أبوه صاخباً معتدا بنفسه ومستبداً لذلك وجد كافكا صعوبة شديدة في التفاهم معه وكان خوفه منه هو سبب اضطرابه وبؤسه. يعزو كافكا كل مافيه من تعاسة لأبيه، ففي رسالته "إلى أبي"، تلك الرسالة التي لم يرسلها لوالده كتب: " أنت خلف كل كتاباتي لقد قلت فيها ما لا أستطيع أن أقوله وأنا على صدرك"

ويقول فيها أيضاً كنت طفلاً عصبيا غير أنني كنت بالمؤكد متجهما، كل ما هنالك أنك عاملت طفلا بالشكل الذي خلقت أنت به؛ بالعنف والضجيج والطبع الحاد. هذا هو سر شخصيته وخوفه وتوجسه من كل ما حوله، بالإضافة إلى موت أخويه وإصابة أمه بالسل فنشأ وحيدا في مواجهة قسوة أبيه. 

فلم يجد في وحدته غير القراءة والكتابة صديقاً له، فأغرم بهرمان هيسه، وديكينز، وديستويفسكي، وكيركغارد ومن أشهر ما نسمعه عن القراءة هو ما قاله لصديقه أوسكار بولاك "إذا كان الكتاب الذي نقرأه لا يوقظنا بضربة على الرأس فلماذا نقرأ إذاً؟ والكتب التي تجعلنا سعداء هي نوع من الخديعة، إننا نحتاج إلى الكتب التي تنزل علينا كالبلية التي تؤلمنا كموت من نحبه، نحتاج إلى الكتب التي تجعلنا نشعر وكأننا طردنا إلى الغابات بعيداً عن الناس، على الكتاب أن يكون مثل الفأس التي تهشم البحر المتجمد في داخلنا".

هذه الشخصية التي يعتريها الخوف، الخوف من الارتباط بأي شيء انعكست على نصوصه، فهي نصوص لا تشير في الغالب، إلى عالم ملموس ومحدود بجغرافيا بعينها، وذلك بسبب تجردها من أي إشارة إلى مكان أو زمان أو سياق تاريخي، أو ثقافي محدد، وهذا الأدب الذي يكتبه كافكا أسماه طه حسين الأدب المظلم وذلك في أول مقال يعرّف القارئ العربي بكافكا، ونشر في مجلة الكاتب المصري في عام ١٩٤٦، بعدها بخمسة أشهر ظهر في نفس المجلة الترجمة العربية الأولى لأحد أعمال كافكا وهي قصة "طبيب القرية" والتي ترجمها عن الفرنسية رمسيس يونان. 

أما أشهر رواية لكافكا هي رواية المسخ، التي كتبها بلا انقطاع، يقول في رسالة لماكس برود: "كتبت المسخ من دون توقف منذ العاشرة ليلاً حتى السادسة صباحاً ولم أكن قادراً على سحب ساقي المتصلبتين من تحت الطاولة، كان الإرهاق الفظيع والبهجة اللذان تابعت من خلالهما تطور القصة يشبهان التقدم على الماء، كنت أحمل في تلك الليلة ثقلي الذاتي فوق ظهري مرات عديدة" 

انتهى من الرواية في عام ١٩١٢ ولم تنشر إلا في عام ١٩١٥ وذلك لكثرة التعقيدات بينه وبين الناشرين، فأول ناشر وافق على نشرها طلب منه اختصار الرواية، فبالنسبة لكافكا أن الرواية لا تُنشر أفضل من أن تبتر، ويرى أن اجتزاء شيء من النص هو عقاب للنص، ويرى أن من يطلب منه ذلك كأنه يقول أنا أذكى منك، فكان من ضمن رده للناشر في رسالة طويلة:  "الرواية بالنسبة لي ليست نوعاً أدبياً محدداً، ولا فرعاً من فروع شجرة الأدب، لن نفهم في الرواية - ويقصد رواية المسخ - إذا أنكرنا ملهمنا الخاص وهو الإنسان الذي يبدو اليوم بلا ملامح". وقد كانت رواية غريبة في ذلك الزمن، عندما أرسلها لخطيبته فيليس باور وصفتها بأنها غريبة ومبهمة بشكل عجيب قالت إنها غريبة كنظام غذائه النباتي، غريبة كانعدام طموحه المهني، غريبة كخوفه من التقارب الجسدي، غريبة ككتابته الليلية. 

وبعد سنوات يرد عليه الناشر" لقد سألتني قبل سنوات أنك لم ترد مني أن أبتر عملك الروائي، وكالعادة لم أستطع الرد عليك، من ناحية بسبب الاحترام الذي أكنه لك، ومن ناحية أخرى لأنني لكي أجد تعليلاً لهذا الجواب بدأت أبحث عن ملامح بطل قصتك، فاكتشفت، أننا جميعاً تحولنا إلى مسوخ بلا ملامح إنسانية" فهذا جوهر رواية المسخ التي حاول فيها كافكا أن يقدم صورة الانسان في العصر الحديث. 

قدم كافكا في حياته القصيرة أعمال عدة لم ينشر أغلبها إلا بعد وفاته فقد أوصى صديقه ماكس برود أن يحرق كل مؤلفاته، ولكن ماكس برود وجد أن فيها عبقرية أدبيه فحافظ عليها ونشرها.

في عام ١٩٠٨ كانت له مجموعة قصصية قصيرة بعنوان التأمل، وفي عام ١٩١٥ نشرت له رواية المسخ وفي عام ١٩٢٥ نشرت المحاكمة، أي بعد وفاته، وفي عام ١٩٢٦ نشرت رواية القصر، وفي العام الذي يليه نشرت رواية أمريكا. 

وكنصيحة أخيرة لمن يريد أن يقرأ كافكا، احذر أن تقرأ لكافكا قبل النوم، يقول الناقد ادموند ويلسن "لقد واجهت صعوبة بالغة في قراءة كافكا، وأنا أتمدد على الفراش، قصص مليئة بالعذاب، بوصف الجروح، بالارتباك، بالسادية والمازوخية، والقسوة، وتظهر مشاهد القوارض والخنافس، وكائنات بشعة أخرى. وتقف وراء كل هذا خلفية من اليأس المطلق. كافكا لا يعدك بقراءة مريحة قبل النوم". 

توفي فرانز كافكا في الثالث من يونيو عام ١٩٢٤ وكتبت في نعيه ميلينا " توفي أول أمس في مصحة كيرلنج بالقرب من فيينا الدكتور فرانز كافكا، كاتب ألماني، عاش في براغ. لم يعرفه هنا سوى قليلين، لأنه كان منعزلاً، واشتهر عنه خوفه من الحياة، كان مصاباً بداء الدرن لسنوات طويلة، وبالرغم من أنه كان يعالج من مرضه، إلا أنه عمل على تنمية مداركه وأفكاره. 

منحه المرض رقة مذهلة، ودقة مخيفة لا هوادة فيها. بيد أنه كإنسان؛ قد ألقى بكل مخاوفه الذهنية من الحياة على عاتق مرضه. كان خجولاً، مرتجفاً، وديعاً وطيباً، لكنه كتب كتباً قاسية ومؤلمة. كان انساناً وفناناً ذي ضمير حي ومرهف للغاية، لدرجة أنه كان يشعر بأمور، لا يتأثر بها آخرون بشكل كبير، بل يتعايشون معها في سلام. 



 للاستماع إلى النص عبر منصات حرم الجمال (انقر هنا)

تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

الخوف

الطوارق