من حياة الأدباء | ٠٢| ادغار الآن بو

 

 

"لقد نعتني البشر بالجنون، ولكن السؤال لم يستقر هناك. هل الجنون علامة سامية على الذكاء؟ أصبحت مجنوناً، بفواصل زمنية طويلة من العقلانية الرهيبة".

 

هكذا قال إدغار آلان بو الكاتب، والشاعر، والمحرر، والناقد. الأديب الذي أبدع قصص التحري والقصص البوليسية والقصص المرعبة. إدغار آلان بو أثر بعبقريته في عدد لا يحصى من مؤلفي أمريكا وبريطانيا وأيضاً أثر في أشهر أدباء فرنسا كرامبو وبودلير، وفي آخر خمسين عام أثرت أعماله في النظريات العلمية، خصوصاً التي تربط بين النظرية والنفسية والأدب. 

 

ولكن ماذا خلف هذه العبقرية؟ ما هو الوجه الآخر لحياة ادغار آلان بو؟

 

ولد ادغار آلان بو في عام ١٨٠٩ تخلى عنه والده وهو طفل وبعدها بسنة توفيت والدته بمرض السل وهو ما يزال طفل يبلغ سنتين من عمره فأخذه تاجر اسكوتلندي اسمه جون آلان في حضانته، هذه الأحداث كانت شرارة خلف ظلامية واكتئاب ادغار، فكان الموت مسيطر على أفكاره، حتى أنه في سن السادسة كان يتخيل أن الموتى يخرجون من قبورهم ويركضون وراءه، فكانت فكرة الموت ممزوجة في أعماله الشعرية فكان يقول "لم أستطع أن أحب إلا إذا كان الموت يمزج أنفاسه مع الجَمَال" 

 

بعد هذه الطفولة البائسة ذهب للدراسة في جامعة فرجينيا وليس معه سوى مائة دولار حاول أن يضاعفها بلعب القمار، وبذلك انزلق إلى هاوية الديون وإدمان الكحول، لم يكمل حتى عامه الأول في الجامعة ولم يتخيل أن يدرس أو أن يبدع في غير الأدب فالكتابة كانت شغفه، وملاذه، فكان يقول " الأدب هو أكثر الأنشطة الإنسانية نبلاً، ومن جهتي، لا أتصور أن شيئاً ما في استطاعته أن يثنيني عن هذا الاختيار، ولو كان ذهب كاليفورنيا كله" 

 

تشاجر مع أبيه بالتبني وغادر إلى بوسطن، كتب كتابه الأول [تامرلين وقصائد أخرى] لكن لم يلق رواجاً، ولكن هذا لم يثنه عن الكتابة، ففي عام ١٨٣٣ نال جائزة على قصته [م.س. في قارورة] وهي قصة رعب تدور أحداثها على متن سفينة، وكانت هذه بداية حاول أن يعيش بها بدون مساعدة والده، ولكن اكتئابه وأفكاره الظلامية مسيطرة عليه فظل يعيش في الفقر وأدمن مادة اللودانيوم التي كان استهلاكها يعد قانونياً في أمريكا في ذلك الوقت. وفي واحدة من أحلك لحظات حياته، لم يحتج إلى أكثر من قلمه لمقاومة الأفكار السوداوية في رأسه، فكتب: "ذهبت إلى الفراش وبكيت في ليلة طويلة وبائسة. عندما انطلقت عجلات اليوم، نهضت وسعيت إلى تهدئة ذهني من خلال المشي بسرعة وسط الهواء البارد الشاق – لكن لم يتغير شيء، مازال ذلك الشيطان الذي يسكنني يعذبني. أخيراً، قمت بشراء أوقية من اللودانيوم".

 

ازدادت حياته بؤساً بعد أن توفي أبوه بالتبني، عاش مع عمته التي تزوج ابنتها لاحقاً، ثم توفيت عمته أيضاً بمرض السل، وهكذا يعود مشهد الموت ومرض السل في حياته ويتكرر مرة أخرى من بعد موت أمه بنفس المرض.

 

في عام ١٨٤٥ نشر أشهر أعماله قصيدة الغراب التي انتشرت انتشاراً ساحقاً وبالرغم من هذا النجاح إلا أن روحه ظلت في سوداويتها واكتئابها فكان يقول "مشاعري في هذه اللحظة مثيرة للشفقة في الواقع أنا أعاني من الاكتئاب بسبب أرواح لم أشعر بها من قبل. لقد ناضلت دون جدوى ضد هذه الكآبة، سوف تصدقني عندما أقول إنني ما زلت بائساً رغم التحسن الكبير في ظروفي" 

 

استمر الموت ومرض السل يلاحقه، توفيت زوجته بمرض السل أيضاً، نفس المرض الذي يموت به كل من أحبهم. فكتب في رسالة لأحد أصدقائه "قبل ست سنوات، كانت لي زوجة، وقعت في حبها كما لم يقع في حبها رجل آخر من قبل، زوجة كانت تنزف دماً وهي تغني. حياتها يائسة. لهذا ودعتها إلى الأبد وخضت كل عذاباتها. تعافت جزئياً وعادت فأورق الأمل في داخلي مرة أخرى. في نهاية السنة انفجر وعاء دموي آخر ووجدت نفسي أتخبط في نفس المشهد. سنة بعد أخرى يتكرر المشهد، يتكرر بطرق متفاوتة. في كل مرة أشعر بها وهي تحتضر، وفي كل لحظة من لحظات احتضارها أتشبث بها وأحاول أن أشدها إلى الحياة رغم اليأس المتصاعد في داخلي. صرت مجنوناً، أعيش في مرحلة طويلة من الجنون. أمر بلحظات في شكل نوبات جنونية، فقدت فيها وعيي وسكرت ". وكتب لاحقاً "إن وفاة امرأة جميلة، هي بلا شك أجمل موضوع شعري في العالم". وهذا ما يؤكد مقولته "لم أستطع أن أحب إلا إذا كان الموت يمزج أنفاسه مع الجَمَال".

 

مات إدغار آلان بو وهو في سن الأربعين في ظروف غامضة، وتعددت القصص في أسباب موته، ولكن الأكيد، بموته اختفى من العالم أحد عباقرة الأدب اللذين قاوموا مرارة الحياة بقوة الكتابة، وترياق الأدب، فكتب لنا انهيار منزل آش، وجرائم شارع مورغ - والتي كانت تعد أول قصة بوليسية – وكتب لنا أيضاً حكاية القط الأسود. وهذه الأعمال وغيرها جعلته من أعظم الأدباء في القصة القصيرة خصوصاً، لأنه يهتم بصياغة الفكرة وأسلوب طرحها، وبحكم أنه كان ناقداً أدبياً أيضاً، كانت له قاعدة في كتابة القصة القصيرة تفيد كل من يكتب هذا النوع من الأدب وهذه القاعدة هي: يجب أن تكون القصة قصيرة لتقرأ في جلسة واحدة، وأن تساهم كل كلمة مكتوبة فيها بالغرض الذي كتبت من أجله، وبهذه القاعدة البسيطة يستطيع أن يسيطر على انتباه القارئ من أول كلمة لآخر كلمة وهذا ما أطلق عليه وحدة التأثير (unity of effect)

 

وبالرغم من أنه عرف بالقصص المرعبة والقصص البوليسية إلا أنه من أكثر الأدباء تجريباً لأنماط مختلفة من الكتابة، فكتب في الخيال العلمي، ورحلات المغامرات والفيزياء، وكعمله كمحرر كتب مئات الصفحات كمراجعات للكتب ودراسة نظرية الأدب. 

 

تخيلوا أن هذا الكاتب العظيم وهذا العبقري لم يحضر جنازته سوى سبعة أشخاص. يقول بودلير "موته هذا كان انتحاراً؛ انتحاراً تم الاستعداد له منذ فترة طويلة". 


                                 للاستماع إلى النص عبر منصات حرم الجمال (انقر هنا)

 

 

تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

الخوف

الطوارق