من حياة الأدباء | ٠٨ | توني موريسون

 

 

"يتحتم على الكاتب دوماً أن يتوخى شديد الحذر ويولي أهمية قصوى لما يكمن بين الكلمات، ولكل ما لا يقال مما يحمله الايقاع ونمط وتشكيل العبارات. إن مالا تكتبه هو في العادة ما يمنح ما تكتبه تلك السطوة التي يحوزها إن كانت له ثمة سطوة ما"

هكذا تنصح الكُتّاب أكثر الكاتبات صرامة مع قلمها وهي توني موريسون أول امرأة ذات أصول أفريقية تحصل على جائزة نوبل للأدب، وأول كاتبة من أصول أفريقية تتصدر صورتها مجلة نيوزويك. وهذا لم يحصل لأي كاتب أو كاتبة من أصول أفريقية قبل ذلك. 

فكيف كان الطريق من ولاية أوهايو التي ولدت فيها عام ١٩٣١ لأسرة من الطبقة العاملة، ثم إلى هجرة عائلتها من جورجيا بسبب الفقر والظلم والفصل العنصري وضيق الحياة السائد في الجنوب الأمريكي تحت معاملة البيض، ثم إلى أرفع جائزة أدبية، جائزة نوبل للأدب. 

طبيعة هذه الحياة القاسية شكلت مخيلة توني موريسون وكان لحكايا والدها الشعبية أثر كبير في مخيلتها السردية، فقد كان يقويها على الحياة بحكايا عن مجتمعهم الأم في أفريقيا، كان دائماً ما يطالبها بأن تكون قوية وأن تجابه الظلم وأن تواجه الحياة بالصمود، أما والدتها فكانت قوية، جابهت العنصرية بحزم، مفعمة بالحياة، تمتلك مواهب متعددة في الموسيقى وسرد الحكايا، فكانت تقول عن أمها " كانت أمي تعشق ارتياد المسارح بعد ظهر أيام السبت والجلوس في الأماكن المخصصة للبيض". 

بالرغم من هذه البيئة القاسية إلا أنها تعلمت من والدها ووالدتها الصمود فتفوقت في دراستها وحصلت على البكالوريوس في الأدب ثم الماجستير ومارست التعليم الجامعي. لكن خلال هذه المسيرة هل تخيلت توني موريسون أن تصل إلى ما وصلت إليه؟ 

كانت توني موريسون مثل بورخيس لا ترى في نفسها إلا قارئة وكانت تتوق لأن تكون قارئة ممتازة وحسب، وكانت تعتقد على حد قولها أن كل ما ينبغي أن يُكتب قد كتب بالفعل. يعني بأنه لا حاجة لكتابة المزيد. هذه الفكرة قد تكون عائق لكثير من المبدعين، فحينما يستصغر الشخص المبدع أفكاره ويعتقد بأن فكرته أو عمله لن يضيف على ما هو موجود بالفعل، حينها توأد الأفكار. 

في مشاركة لها مع مجموعة من الكتاب في الجامعة أرادت أن تكسر بها الروتين وتتعرف على أفكار جديدة للنقاش، أرادت الخروج عن روتين انشغالها بأسرتها وطفلها، وتقوم بتوسيع دائرة معارفها وعمل تجديد في حياتها، شاركت هذه المجموعة نشاطاتها، وفي كل اجتماع شهري يناقش الكتاب ما يكتبونه. ومن مشاركة لكسر الروتين فقط تشجعت، كتبت قصة عن فتاة سوداء قابلتها وهي صغيرة وكانت تلك الفتاة تتمنى لو أن لها عينان زرقاوان كالفتيات البيض وكانت تصلي من أجل هذه الرغبة، ولكنها رغبة لم تتحقق، وتأكدت بأنها ستعيش محكوماً عليها بأن تكون فتاة سوداء للأبد. وكانت هذه أول أعمالها (العين الأكثر زرقة) عام ١٩٧٠.

بعد عامين توالت الأحداث في حياتها؛ رزقت بمولودها الثاني، تطلقت من زوجها، استقالت من العمل في الجامعة وكانت هذه الاحداث لها تأثير كبير في حياتها. حينها أصبحت الكتابة هي أنيسها في هذه الوحدة، فأخذت الكتابة كعلاج وأنيس تقول "لم أكن لأرغب في مواصلة حياتي لو كنت لا أمتلك ما يدفعني إلى الكتابة" وتقول "وأنا مستغرقة في فعل الكتابة أشعر بانتمائي إلى هذه الأرض وإلى الكائنات التي تعيش عليها كما يغمرني الشعور بأن كل ما يبدو ميئوساً منه يمكن أن يكون مفيدا بشكل ما". وهذا يظهر الدور النفسي الكبير للكتابة. لو تقرأ لأي شخص متخصص في العلاج النفسي أو في تطوير الذات تجد موضوع الكتابة موضوع رئيسي، فالمعالج النفسي يقول اكتب عن مشاعرك، وأيضاً متخصصو تطوير الذات يقولون اكتب أهدافك، أكتب مزاياك أو عيوبك. وهكذا نجد أن الكتابة أو تفريغ الأفكار من الدماغ إلى الورق هو نوع من التنوير الذي يمكن أن يجعلنا نرى ذواتنا بطريقة مختلفة تفيدنا بالضرورة. 

هذه الحياة الجديدة لتوني؛ أن تكون أُماً عاملة من التاسعة للخامسة، أن ترعى أطفالها، كل هذا لم يمنعها من الكتابة، بل بالعكس جعلها أكثر صرامة في ترتيب وقتها وتقنياتها، فتعد من أكثر الكاتبات صرامة مع نفسها. كانت تبدأ الكتابة قبل الفجر لتستغل الوقت قبل أن يستيقظوا أطفالها وقبل الانشغال بالعمل، تقول أنها في هذا الوقت تكون حادة الذهن وأكثر ذكاء وثقة بالنفس فعادة الكتابة قبل بزوغ الفجر أصبحت تقليدا مستديماً وخيارا ثابتاً حتى بعدما تركت العمل وكبر أطفالي لذلك تصف نفسها بأنها كاتبة نهارية بامتياز. 

ولم تكن صارمة في التوقيت فقط، بل أنها صارمة حتى مع فكرة النص وشخوص الرواية، وتبدأ الكتابة وهي متخيلة دور كل شخصية في الرواية تقول "أتحكم جيداً وعلى الدوام بشخصياتي الروائية لأنها في الأصل شخصيات متخيلة بدقة وإحكام صارمين وأشعر في كل الأوقات بأنني أعرف أدق تفاصيل حياة كل شخصية منها حتى التفاصيل التي لا أكتبها، وهنا يظهر مقصدها من قولها بأهمية وتأثير مالا يكتب فيما يُكتب. فكل هذه الصرامة والدقة التخيلية مع شخصيات خيالية تماماً، وهي أيضاً صارمة في أنها لا تستخدم في رواياتها أو شخصياتها بأي أحد تعرفه في الواقع فالشخصيات الخيالية تعطيها حرية أكبر في الكتابة وهناك استثناء وحيد لهذه القاعدة الصارمة في كتاباتها وهي روايتها الأولى (العين أكثر زرقة) 

تبدأ الكتابة عند موريسون من فكرة، تقول" حتى لو أنها فكرة عابرة ولكن بمجرد أن تُولد هذه الفكرة سؤالاً لا يمكنني الاجابة عليه حينها تكون فكرة للكتابة. حينها تضع بقواعدها الصارمة الشخصيات والأحداث ودور كل شخصية في هذه الأحداث، حتى أنها تعرف كيف ستنهي الرواية. وعندما تنهمك في الكتابة تدخل بكل كيانها في هذا العالم وتنقطع عن العالم وتمكث لأيام بدون أي مشتتات حتى أنها لا ترد على هاتفها لأيام حتى تمنع أي انقطاع لفكرتها وسيل سردها. والثيمة الرئيسية في كتاباتها هي السعي الحثيث للأفراد السود لإيجاد ملامح هويتهم على المستوى الذاتي والثقافي وسط مجتمع تظهر فيه اللاعدالة واللامساواة، معظم أعمالها تتحدث عن البيض والسود في أمريكا وبالرغم من أنهم تحت قبة واحدة وهي أمريكا إلا أن هناك اغتراب داخلي في أرواح السود ينعكس على شخصياتها في السرد

كتبت لنا توني موريسون العديد من الروايات كرواية صولا عام ١٩٧٣ تناقش فيها موضوع الصداقة، وعلاقة الخير والشر، وذلك من خلال صديقتين لكل واحدة منهما نظرة مختلفة حول ما يجعل الحياة جديرة بأن تعاش. 

رواية أنشودة سليمان، والتي نالت عليها جائزة النقاد الأمريكيين عام ١٩٧٧ وتصف فيها عالم السود على مستوى الواقع والأسطورة ومن هنا بدأت تنال شهرتها الواسعة وتوالت الأعمال حتى حصلت على نوبل للأدب في عام 1993 وقد قالت توني موريسون في تصريح لها " بهذه المناسبة "أشكر الله أن تكون والدتي على قيد الحياة لترى ذلك، لأن والدتي كانت تقول لي " ما الفائدة من كتاباتك يا ابنتي وأنت سوداء" 

هكذا يتعلم كل كاتب من موريسون الصمود أمام التحديات المختلفة، الصرامة في الكتابة والانضباط عليها. لم توقفها أو تحبطها الرواسب النفسية للعنصرية واللامساواة – لم توقفها صعوبات الحياة والوظيفة وعدم التفرغ، بل جعلت الكتابة بالعكس معاوناً لها على مقاومة الخذلان والوحدة، وجعلتها سلاحاً ضد كل صعوبات الحياة. 

توفيت توني موريسون في عام ٢٠١٩ عن عمر يناهز الثامنة والثمانين، كتبت لنا خلالها إحدى عشر رواية (العين أكثر زرقة، صولا، أنشودة سليمان، محبوبة، جاز، الفردوس، الحب، شفقة، البيت أو الوطن، وأخيرا ليكن الله في عون الطفلة. 

للاستماع إلى النص عبر منصات حرم الجمال (انقر هنا)


تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

الخوف

الطوارق