تاريخ المكتبات (١).. مكتبة إيبلا هي الأولى



تم استحداث وتطوير أول نظام كتابي في الألفية الرابعة قبل ميلاد المسيح عليه السلام في المدينة التاريخية العريقة "الوركاء" أو "أوروك" بالسومرية، وهي مدينة سومرية وبابلية على نهر الفرات، شرق السماوة في العراق الحالية. من أجل المدنية المنشودة وتنظيم المجتمع وتلبية لحاجة المجتمع آنذاك، وبعد سن القوانين والأحكام التجارية، وفي سبيل الحفاظ على هذه التعاملات المالية، طوّر هؤلاء فناً كان مقدراً له أن يغير التاريخ الإنساني إلى الأبد، ألا وهو فن الكتابة. إن التاريخ الفعلي لهذا الحدث مجهول، ولكن قد يكون ما بين ٣٤٠٠ قبل الميلاد و٣٠٠٠ قبل الميلاد. نشأت الكتابة بما سمي الكتابة التصويرية، فصورة أو حرف تمثل فكرة، ثم تطورت إلى الكتابة المسمارية، حيث يتم النقش على ألواح طينية تسمى ألواحاً صلصالية. ومن أجل حفظ هذه التعاملات كدعامات للذاكرة الإنسانية كانت تحفظ هذه الألواح لأجيال في غرف مخصصة لذلك، وتعد هذه الأمكنة هي الشكل البدائي الأولي للمكتبات. 

مكتبة إيبلا 
تعد مكتبة مدينة إيبلا (مدينة أثرية قديمة شكلت حضارة ومملكة عريقة ازدهرت في شمال غرب سوريا في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد)  أول مكتبة من هذا النوع في التاريخ، وما زالت أفضل نموذج محفوظ للآن، وقد تم اكتشافها في العام ١٩٧٥ عندما حفر علماء الآثار القصر القديم للمدينة، فكانت هناك غرفة أرشيف مستطيلة الشكل تبلغ أبعادها خمسة أمتار * أربعة أمتار، يظهر أن الأرفف المتهالكة كانت تغطي جميع حوائطها واحتوت على ما يقارب ١٥٠٠ لوح صلصالي مختلفة الأحجام، فكان أصغرها طوله ٢سم و يبلغ سُمكه عدة مليمترات فقط، أما أكبرها فتصل أبعاده ٣٠ سم * ٤٠ سم ويبلغ سُمكه ٤-٨ سم، محافظة على شكلها بالرغم من الحريق الذي أثبت علماء الآثار حدوثه في هذا القصر ما بين ٢٥٠٠-٢٢٥٠ قبل الميلاد، ويعود الفضل لمقاومة هذه الألواح لكل هذه الظروف القاسية إلى طريقة صنعها حيث أنه وبعد النقش عليها يتم تجفيفها داخل أفران للحفاظ على النقوش بشكل دائم، وبذلك لم تؤثر النار عليها واستطاعت مقاومة بقية العوامل الزمنية والطبيعية، وبذلك تكون مكتبة إبلا المكتبة الوحيدة التي قاومت النار على مر التاريخ ، حيث أن للنار مع المكتبات الكثير من القصص المؤلمة والتي سيتم التطرق اليها لاحقاً . وهكذا قاومت حضارة بلاد الرافدين هاجس الإنسان الأكبر، الموت والنسيان وذلك عن طريق فن الكتابة الذي خلد حضارتهم، وحافظ على تعاملاتهم.

محتوى مكتبة إيبلا: 
الألواح التي تم اكتشافها هي خليط من سجلات احتوت على نصوص ثنائية اللغة، تعاويذ، ونصوص عن الأساطير السومرية. كانت كما بدت مرتبة على أرفف بطريقة مختلفة عن التي نرتب بها كتبنا اليوم فقد وجد علماء الآثار هذه الألواح موسومة من جهة القارئ بطريقة تظهر أنها كانت مرتبة في صفوف، لوح ومن خلفه الآخر على أرفف متباعدة نسبياً عن بعضها البعض، قدر العلماء هذا التباعد بضعف حجم اللوح نفسه حتى يتسنى للقارئ رفع الألواح الخلفية بسهولة. التصميم الذي وجدت عليه مكتبة إيبلا كان مقارباً لكل ما اكتشف بعدها عن تلك الحقبة الزمنية مع ملاحظة طرق مختلفة أخرى يتم بها ترتيب الألواح، فوجدت في بعض المناطق صناديق طينية توضع بها الألواح عمودياً في مجموعات، ويوضع على كل مجموعة قطعة طينية موسومة برقم وملحوظة تسهل على الباحث الوصول للوح المراد.

تطورت الكتابة المسمارية من كتابة أرقام وحروف فقط الى كتابة عبارات أطول، فكُتبت لغات كثيرة بهذا النوع من الكتابة منها الآكادية والآرامية، الإبلاوية، العيلامية وغيرها من اللغات تصل إلى خمس عشرة لغة، واستمرت من حكم السومريين والأكديين والآشوريين. بذلك حافظت الكتابة المسمارية على حفظ هذه اللغات لما يقارب ٣٥٠٠ سنة وغطت مناطق واسعة تضم حالياً سوريا والعراق وغرب إيران. ومن هنا تظهر أهمية فن الكتابة وأهمية الكاتب  التي جسدتها حضارة بلاد الرافدين إذ أن الناس كانوا يحتاجونه لإيصال الرسائل ونشر الأخبار وتدوين أوامر الملك وتسجيل القوانين وتدوين الصفقات التجارية والأعمال الإقتصادية، تدوين تشخيص الأمراض والوصفات الطبية ومرافقة الحملات العسكرية والكثير الكثير من الأمور التي لم يكن حدوثها ممكناً بدون الكتابة والكاتب، فكان لفن الكتابة والمكتبات الكثير من الاهتمام حتى ظهرت أكثر المكتبات تطوراً في تلك الحقبة الزمنية وهي مكتبة الملك الآشوري آشور بانيبال وما تلاها في الحضارات القديمة المختلفة، والتي ستكون موضوع الحديثي في مقال لاحق. 


تعليقات

إرسال تعليق

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

باهَبَل مكة Multiverse - رجاء عالم

عالم صوفي * .. رحلة تطور الفكر الإنساني (٢)