من حياة الأدباء | ٠٦ | ارنست همنغواي

 

 

أنا ارنست همنغواي، وعندي رواية ومجموعة من القصص وأعمل مراسلاً صحفياً. 

قال فوكنر والامتعاض يملأ وجهه، وبعد؟ 

أجبت: لا شيء. فقط كنت أحلم بأن ألتقي بك، وها قد تحقق الحلم. 

 

هذا الشاب الذي حلم بلقاء فوكنر في يوم ما، حصل على نوبل للأدب من بعد أن بدأ حياته العملية كمحرر لجريدة مدرسته الثانوية، ثم مراسلاً لصحيفة كانساس سيتي ستار فتعلم فيها كتابة التقارير وكتابة مواضيع الأخبار، وبدأ في بناء أسلوبه الخاص والذي عرف بأسلوب الإرشاد النجمي الذي يصفه بقوله: "استخدم الجمل القصيرة. استخدم فقرات افتتاحية قصيرة. استخدم لغة انجليزية متينة. كن ايجابياً لا تكن سلبياً. وهذا الأسلوب هو ما قد تلمحه في كتابات همنغواي. 

 

يُقال إن همنغواي كان رجلاً منجذباً إلى الحرب والعنف والموت وقد تكون طفولته الغريبة دفعته إلى هذا التوجه، فقد كانت والدته "غريس هال همنغواي" تلبسه وهو وشقيقته مارسيلين ملابس فتيات لأسبوع وفي الأسبوع التالي تلبسهما ملابس ذكور، حتى أنها أعطته اسم فتاة وأسمته ارنستين، وهذا مما دفعه دائماً بالتصريح بكره أمه. 

أما أبوه فقد كان محباً للرحلات البرية، فعلمه الصيد والتخييم، وهذا ربّى في داخله حب الصيد والمغامرة. 

وهو في سن التاسعة عشرة استجاب لحملة تجنيد في الحرب العالمية الأولى كسائق سيارة اسعاف وأرسل إلى إيطاليا وأصيب في تلك الحرب. عاد بعد أشهر وأكمل عمله كمراسل، ومن ثم انتقل إلى باريس، ثم إلى اسبانيا لمشاهدة مصارعة الثيران، فهو يرى أن هذه الرياضة ذات أهمية مأساوية كونها مسألة حياة أو موت، ويقول إنها الفن الوحيد الذي قد يموت بفعله الفنان. 

 

هذا الشاب الذي يعيش حيوات متعددة من خلال مغامراته، دفعه العوز يوما وهو في باريس للخروج من الفندق الذي يسكن فيه لأنه لا يستطيع أن يدفع تكلفته، ليجلس في مقهى كئيب سيء السمعة لأنه لا يجيد سوى موهبة الإفلاس على حد قوله، وحينما رآه بيكاسو في ذلك المكان قال له ما الذي يدفعك أن تكتب بين المجرمين والسكيرين؟ فلم يجبه لأنه كان مضطراً إلى الجلوس في هذا المكان، كان آملا بالنجاح، وقد نشر روايتي الشمس تشرق أيضاً، ووداعاً للسلاح في ذلك الوقت. 

 

ولكن رواية وداعا للسلاح أولى خطوات مجده؛ تخيلوا أن المحرر للواشنطن بوست قال عنها أنها أسوأ رواية قرأها خلال سنوات طويلة. لذلك كان محبطاً. وهنا لنا وقفة مع آراء النقاد. 

 

عزيزي الكاتب لا تأخذ أقوال النقاد على محمل الجد دائماً، فبعد هذا الرأي فكر همنغواي هل يتخلى عن الحلم؟ فلا تدفعك آراء النقاد لهذا المنحدر، يقول جوزف برودسكي الشاعر والكاتب الحاصل على نوبل للأدب في عام ١٩٨٧: " المشكلة فيما يتعلق بالناقد ذات ثلاثة أبعاد: أولها، أنه قد يكون خبيراً أو أن يكون جاهلاً بقدرنا. فقد يكون الناقد جاهل وينتقدك وهو لا يملك أدنى فكرة عن عمق عملك. ثانياً: قد يكون لديه ميل قوي تجاه نوع معين من الكتابة، أو قد يكون مجرد تابع لسوق النشر. بمعنى أن عملك باختصار لا يناسب ذائقته فينتقدك وكأنه مسيطر على أذواق الناس جميعاً. أما ثالث هذه الأمور أن يكون الناقد كاتباً موهوباً فيحول كتابته النقدية لفن قائم بذاته فتجد القارئ يقرأ عروض الكتب عوضاً عن قراءة الكتب نفسها". فحينها لا تقرأ الناس كتابك. 

 

نعود الآن لرواية وداعاً للسلاح هذه الرواية التي يقول كاتبو سيرة همنغواي أنه أعاد كتابتها أكثر من تسع وثلاثين مرة قبل النشر، لذلك كلن يقول الكتابة أمر شاق، وكتب لها أكثر من خمسين نهاية، واختار العديد من العناوين كحب في الحرب وعن الجراح وأسباب أخرى إلى أن وصل أخيراً لوداعاً للسلاح وعندما سُأل عن هذه النهايات والكتابات الكثيرة قال من أجل الوصول إلى الكلمات المناسبة. كانت رواية وداعاً للسلاح أقرب ما تكون لسيرة ذاتية، فخلال تواجده وقت الحرب في إيطاليا أحب ممرضة اسمها اغنيس فون، ولكنها هجرته فكانت هذه الرواية تصويراً لهذه العلاقة.

 

خلال فترة احباطه وافلاسه أتاه طرداً من دار النشر التي نشرت وداعاً للسلاح يخبره أن القراء تدافعوا بالمئات للحصول على نسخة منها، بيع منها عام ١٩٣٠ أكثر من خمسة وعشرين ألف نسخة، حينها قالت له جيرترود شتاين" لا تفرح بالنجاح عليك أن تبدأ كل مرة من جديد".

 

بعد ذلك بسنوات يتذكر كيف كان يستعجل النجاح، يقول" "لم أكن أعرف آنذاك كيف تكتب الرواية الجيدة. كنت أستعجل النجاح، لذا لا زلت أعتقد أن ما كتبته في بداية حياتي عبارة عن كوم من الأوراق السيئة" وهذا معنى كلمات شتاين عليك أن تبدأ كل مرة من جديد. 

 

لذلك كان يرى أن الحكاية التي ستجلب له المجد لم تكتب بعد، حتى أتى اليوم الذي كتب فيه عن رجل أضنته الشيخوخة، ويعمل في الصيد، ولم يصطد أي شيء لمدة ثمانية وأربعين يوماً، يأخذ مركبه ويحاول في كل يوم، لا يثنيه الفشل، ولا ينقطع به الأمل، ولا يفكر في عمره، فالزمن لا يعنيه، يحاول كل يوم، حتى رأى في أحد الأيام سمكة عملاقة، ها هو حلم الشيخ الصياد يتحقق، سيثبت للجميع قدراته، يصارع ويصارع من أجل اصطياد السمكة، يوم يومان، ثلاثة، وأخيراً بدأت السمكة ترفع راية الاستسلام، ولكن يأخذنا همنغواي في منحنى آخر، بدأت أسماك القرش تهاجم السمكة فتحولت مجهودات الصياد من اصطياد السمكة إلى محاولة انقاذها من الموت على يد منافسيه "أسماك القرش". رواية مشوقة كتب خلال أسبوع واحد خمسين صفحة منها فصورة الصياد الشيخ لا تفارقه.  تأملوا معي الأحداث.. أليست الحياة كذلك تشيخ وأنت تطارد حلمك وقد تجد من ينافسك على هذا الحلم وهذا الظفر، ولكن لن تتوقف الحياة والسعي نحو النجاح ما دمت تملك نفساً ورغبة في الانتصار. وكانت حياة همنغواي كذلك فقد كان يقول أفضل لحظات الحياة هي لحظات الانتصار وكسب المعارك. 

 

نلاحظ أن ما كان يكتبه همنغواي كان من صميم حياته المليئة بالأحداث والمغامرات، فهمنغواي مجموعة انسان ففيه من كل ضد وضد، رجل رأى الحرب واستمتع بالسلام، وكتب عن الضعف الإنساني، وعن الحب، كان يقول " ليتني أتمكن من كتابة رواية كل شهر، هناك أفكار وصور وحكايات تعشعش في رأسي". فرواية الشمس تشرق من جديد بناها على حياة أصدقائه وعلى أحداث واقعية، موت في الظهيرة كانت نتيجة تعمقه الكبير في مصارعة الثيران، وليمة متنقلة، عبارة عن مذكراته في باريس. 

 

بالرغم من النجاحات الكبيرة في حياته الكتابية إلا أن حياته الخاصة فيها كثير من المآسي ففي مكامن همنغواي حزن مخيف، يقول "إن السعادة لدى الأشخاص الأذكياء هي أندر شيء أعرفه" ويقول "لقد أمضيت وقتاً كبيراً في قتل الحيوانات لكيلا أقتل نفسي" وهذه إشارة لإسرافه في هواية الصيد. وكانت الكتابة ملاذه من هاجس الموت. لكن في يوم من أيام يوليو ١٩٦١ اصطاد روحه ببندقية الصيد التي اصطاد بها هرباً من هذه اللحظة. مات من عائلة همنغواي سبعة أشخاص انتحاراً منهم والده، وأخوه وحفيدته، وعندما انتحر والده، قال أعتقد أني سأنهي حياتي كذلك في يوم ما". وهكذا فعل.   


للاستماع إلى النص عبر منصات حرم الجمال (انقر هنا)

تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

الخوف

الطوارق