من حياة الأدباء | ٠٧ | خورخي لويس بورخيس

 

 

"دع الآخرين يتفاخرون بأنفسهم بعدد الصفحات التي كتبوها؛ أما أنا فأفضل أن أتباهى بعدد الصفحات التي قرأتها"

 

هذه الكلمات لخورخي لويس بورخيس أحد أفضل كتاب جيله، هذا الكاتب الذي أقر رواد الكتابة الاسبانية في القرن العشرين بأنهم مدينون له، ومع ذلك كان يقول عن نفسه وأنه قبل كل شيء قارئ، وكانت كتب الآخرين هي ما يريد أن يحاط به. 

 

ولد خورخي لويس بورخيس في عام ١٨٩٩في بوينس آيرس، وكان والده من أصول انجليزية فنشأ متحدثاً بالإنجليزية.

نشأ محباً للقراءة والأدب، قرأ الأدب الاسباني والإنجليزي منذ سن صغيرة. عاش متنقلا بين سويسرا واسبانيا ثم عاد إلى الأرجنتين، وبدأ في كتابة الشعر، ثم القصص القصيرة. حياة بورخيس متعلقة بالكتب، فجوهر الحقيقة عنده يكمن في الكتب؛ قراءة الكتب، تأليف الكتب، والتحدث عن الكتب. يقول "لست أدري بالضبط سبب إيماني بأن الكتاب يجلب لنا أفق السعادة، لكنني ممتن حقاً لتلك المعجزة المتواضعة. هكذا آمن بأن السعادة يمكن العثور عليها في الكتب. لذلك عمل كمكتبي في أول حياته إلى أن أصبح مدير مكتبة الأرجنتين الوطنية وشغل وظيفة أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة بوينس آيريس. 

 

كان بورخيس ضعيف البصر، ومن عجائب القدر أنه فقد بصره تماماً عندما شغل منصب مدير مكتبة الأرجنتين الوطنية، وفقدانه هذا للبصر كان متوقعا لأنه موروث من عائلته. تقول أمه اعتدت أن أكون يد زوجي، وأنا الآن يد ابني". تخيلوا ماذا سيكون أقسى من العمى ليصاب به محب للقراءة والكتب؟ ما أصعب وما أقسى هذا الشعور!

 

لذلك فإن بورخيس أيقونه ملهمة لكل عاشق للقراءة أو الكتابة، فمن سن الثلاثين بدأ يفقد بصره تدريجياً حتى فقده تماماً في الثامنة والخمسين، ففرض عليه العمى صومعة ناسك ألف فيها أعماله، ولم ينقل لنا هذه التجربة في القراءة والتحليل والكتابة التي كان يعيشها بورخيس أكثر من ألبرتو مانغويل، القاريء الموسوعي الذي ألف لنا كتباً مهمة من أهمها كتاب تاريخ القراءة. فقد كان ألبرتو مانغويل أحد الأشخاص الذين يقرؤون لبورخيس، فيحكي لنا ألبرتو مانغويل كيف أخذت به الأقدار ليكون قارئاً لبورخيس، فيقول كنت في السادسة عشرة أعمل في مكتبة يمر بها بورخيس عندما كان يعمل كمدير للمكتبة الوطنية، وذات يوم سألني إن كان لدي شيء آخر أفعله، وإذا ماكنت أستطيع أن أحضر وأقرأ على أسماعه في أوقات المساء، قَبِل ألبرتو مانغويل ذلك وأصبح يزور بورخيس ثلاث أو أربع مرات في الأسبوع. 

 

يصف لنا مانغويل عالم القراءة والكتابة عند بورخيس فيقول بأن العالم الفيزيائي لم يكن يعنيه إلا بما هو استحضاراً لقراءاته. 

 

ولكن كيف كان يؤلف بورخيس ويكتب؟ يقول ألبرتو مانغويل كان ينظم في رأسه ما يريد أن يكتبه بالتفاصيل، ويسألني أيمكن أن تدون هذه؟ فيملي كلماته، مرخماً الايقاعات، متلفظاً حتى بعلامات الترقيم. وبعد أن ينتهي يطلب منه قراءة ما كتب ويعيد على أسماعه النص، مرة، مرتين، وأكثر، ويعيد ويكرر يصغي للمفردات يحللها ثم يضيف ويضيف حتى ينتهي النص. يقول مانغويل إنه لمن الغريب التفكير بأن المؤلَّف الوليد يرى النور للمرة الأولى بكتابة يدٍ ليست يد مؤلفه. 

 

لاحظوا معي ملاحظات قارئ نهم كألبرتو مانغويل كيف أنه فكر كيف للمُؤَّلف أن يُكتب بغير يد مؤلفه. هذه ميزة القارئ؛ التدقيق في التفاصيل، التحليل للكلمات والحركات والسكنات، فكان بورخيس كذلك، ويمتاز بذاكرة قوية، وقدرة تخيلية هائلة، فيقول في حرفة الشعر "تعود بي ذاكرتي إلى مساء بعينه .. في بوينس آيريس أبصره... أبصر ضوء الغاز؛ أستطيع أن أضع يدي على الرفوف. أعرف بالضبط أين أجد ألف ليلة وليلة بترجمة برتون، وغزو البيرو لبريسكوت، رغم أن المكتبة لم تعد موجودة"

 

ويصفه ألبرتو مانغويل ويقول كان يتذكر كل شيء ولم يحتج نسخاً من كتبه التي ألفها، كان بالعادة يستطيع أن يسرد ويصحح ويعدل في ذاكرته كل كتاباته، كان النسيان أمنية طال تكرارها (ربما لأنه أدرك أنها بالنسبة إليه ضرب من المستحيل) وأما التناسي فهو تصنع. 

 

ماذا عن الأدب الذي يكتبه بورخيس؟ 

كان جنسه الأدبي المفضل هو الخيال، فإنه يصف عالماً شبيها بالحلم، يقول "يطيب لي أن أكتب قصة بجودة الحلم. حاولت وأحسب أنني لم أفلح قط" 

فقد كان بورخيس حالماً متوقداً، وكان يستمتع بقص أحلامه، فالأحلام عنده هي مملكة كل الممكنات، كان يستمتع باللحظات التي تسبق الخلود للنوم وبالتحديد ذلك الوقت الفاصل بين النوم واليقظة، فيصف حالته في تلك اللحظة "أكون واعياً لفقدي الوعي". 

تتلاعب قصصه بمفاهيم مختلفة كالزمن وتسخر من التحذلق وتقدم للقارئ تعقيدات شبيهة بالمتاهة، فالمتاهات والمكتبات، والمرايا مواضيع متكررة في قصصه، وخلف هذه المواضيع قصة، فالمتاهات والمرايا كوابيس تسكن بورخيس منذ صغره، فالمتاهة اكتشفها كطفل للمرة الأولى في طبق نحاسي نقشت عليه عجائب الدنيا السبع بعثت فيه خوف، البيت من دون أبواب ويقبع في وسطه وحش بانتظاره. أما المرايا أرهبته لفكرة أنها قد تعكس يوماً ما وجهاً ليس وجهه، والأسوأ ألا تعكس وجهاً على الاطلاق. بتأملنا لهذه القصة نستطيع أن ندرك عمق مخيلة بورخيس وإلى أي مدى يصل به الخيال حتى عندما كان طفلاً. تعلق المتاهة بأعماله أدى إلى أن تقوم مؤسسة بورخيس الدولية ومؤسسة جورجيو تشيني لعمل ما أطلق عليه متاهة بورخيس في البندقية وذلك في الذكرى الخامسة والعشرين من وفاته. 

 

بورخيس القارئ بالرغم أن شأنه الأدب، وليس ثمة كاتب في هذا القرن غير علاقة القارئ بالأدب على حد وصف ألبرتو مانغويل، وبالرغم أنه غير في اللغة الاسبانية نفسها وأدخل فيها من اللغات الأخرى إلا أنه كان يعد نفسه قارئاً، فهو يرى أن القارئ وحده من يمنح الحياة والعنوان للأعمال الأدبية، حتى أنه لا يتحدث عن الكُتّاب كونه صديقهم، ولكن يتحدث وكأنه لا يعرفهم إلا من خلال كونه قارئهم، فهم عنده لا ينتمون إلا إلى عالم المكتبة. 

قرأ بورخيس بالإنجليزية، والإسبانية، والفرنسية، والألمانية، كم أغبط هؤلاء الذين يستطيعون قراءة النصوص بلغتها الأصلية. 

يكتب كيليطو عن علاقة بورخيس باللغات فيقولكان يعيش بأربع لغات، في قصيدة له يكتب بورخيس بيت نادر ملتبس، يقول" (بأية لغة سيكون علي أن أموت؟) قد يكون معناه: بأية لغة سيفاجئني الموت؟ وقد يكون بأية لغة يجب أن أموت ما هي اللغة التي من واجبي أن أموت بها ؟ حسم بورخيس الأمر جزئياً في القصيدة حين أضاف مخمناً: هل ستحضرني إذ ذاك الإسبانية أم الإنجليزية ؟ ذكر اللغتين الأقرب إلى قلبه، لكن الغريب في الأمر أنه لن يموت بأية واحدة منهما ناهيك عن الفرنسية والألمانية

سيموت بلغة خامسة لم يكن يتوقع أو يحدس أنه سيموت بها، لغة جديدة سيتاح له اكتسابها.

 أية لغة يا ترى؟ إنها العربية التي شرع في تعلمها خلال السنة التي توفي فيها

مات بورخيس في عام ١٩٨٦ في جنيف بعد أن كون إرثاً أدبيا، كان من شأنه أن يكوّن نوعاً أدبياً جداداً أطلق عليه الأدب البورخيسي.

 

للاستماع إلى النص عبر منصات حرم الجمال (انقر هنا)

 

تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

الخوف

الطوارق