عالم صوفي*.. رحلة تطور الفكر الإنساني (٧)

Immanuel Kant (1724-1804) by Johann Gottlieb Becker (1720-1782)

نتابع تاريخ تطور الفكر الإنساني المستخلص من رواية عالم صوفي، وأبتدىء هذا المقال السابع بدون أي مقدمات للحديث عن عصر التنوير والذي يندرج فلاسفته على خط الفلاسفة الإنسانيين في العصور القديمة، مثل سقراط انقر هنا والرواقيين انقر هنا من حيث إيمانهم المطلق بعقل الانسان، فبعد أن أرسى العلم التجريبي مبدأ كون الطبيعة تسير وفق قواعد دقيقة تماما، وبما أن أكثر الفلاسفة الطبيعيين لا يؤمنون بأي إله، أخذ الفلاسفة على عاتقهم مهمة إرساء قواعد الأخلاق والدين وأنه لا يمكن تصور العالم بدون الله. ويقودنا هذا إلى فكر عصر التنوير بمعناه الحقيقي ألا وهو تنوير طبقات الشعب الدنيا كشرط أساسي لبناء مجتمع أفضل، وإلى سعيهم إلى إزالة الغبار عن المسيحية وعن كل المعتقدات الاعتباطية، وتلك التعاليم الإيمانية التي حلت محل رسالة السيد المسيح عبر تاريخ الكنيسة. وسعى فلاسفة التنوير جاهدين لإرساء حقوق الانسان، وحرية التعبير التي صادرتها تعاليم الكنيسة سواء في الدين، في السياسة أو في الأخلاق وكل ذلك تحت اسم الرب، فظهر إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي شرعته الجمعية الوطنية الفرنسية عام ١٧٨٩م. 

وللحديث عن عصر التنوير لا بد من الحديث عن "إمانويل كانت" والذي ولد عام ١٧٢٤ في كينغسبرغ (كاليننغراد اليوم) في بروسيا الشرقية، حيث عاش كل حياته إلى أن توفي في الثمانين من عمره. تلقى تربية قاسية ومتدينة مما شكل عاملاً حاسماً في كل فلسفته، حيث كان يرى أنه من المهم جداً إنقاذ أسس الإيمان المسيحي. 
واتخذت فلسفته مساراً وسطاً بين العقلانيين انقر هنا الذين يروا أن عقل الإنسان هو أساس كل معرفة وبين التجريبيين انقر هنا الذين يروا بأن حواسنا هي التي تسمح لنا بمعرفة العالم، فقد رأى كانت أن الإثنين على خطأ وعلى صواب على نحو ما، فهم على خطأ لمبالغتهم في الانحياز إما للحواس أو الانحياز للعقل، فهو يرى أن الحواس هي أساس المعرفة والعقل وحده هو الذي يملك الشروط اللازمة لتحليل كيفية إدراكنا للعالم من خلال هذه الحواس. ومثال ذلك: عندما نضع نظارة حمراء على أعيننا نرى أن الأشياء أصبحت حمراء، فالنظارات هنا حددت لنا كيفية رؤيتنا للعالم، فكل ما نراه يأتي من العالم الخارجي، ولكن كيف نراه؟ فلا يمكن لنا أن نؤكد أن العالم أحمر لأننا نراه بهذا اللون. فبهذه الطريقة يعتقد "كانت" أن عقل الإنسان يمتلك قدرات تحدد كل تجاربنا الحسية. 

يؤكد كانت على أنه إذا كان الوعي يتشكل انطلاقاً من الأشياء فإن الأشياء بدورها، تتشكل انطلاقاً من الوعي. وهذه النقطة هي ما أسماه كانت "ثورة الكوبرنيكية" في مجال المعرفة. ويريد بذلك أن يقول إنها طريقة جديدة في التفكير كما كانت نظرية كوبرنيكوس يوم أكد أن الأرض تدور حول الشمس لا العكس. ويتفق كانت مع هيوم  بأننا لا نستطيع أن نمتلك أي يقين حول حقيقة طبيعة العالم "بذاته". ما نستطيعه هو فقط معرفة كيف هو العالم "بالنسبة لي" أي بالنسبة لنا نحن البشر. وبذلك يميز "كانت" بين "الشيء بذاته" و"الشيء بالنسبة للأنا". فقدرتنا على المعرفة هي التي تنظم المعرفة لا الأشياء التي تحددها. فمن جهة لدينا العناصر الخارجية التي لا نستطيع معرفتها قبل أن نجربها، وهذا ما نسميه مادة المعرفة، ولدينا خصائص العقل البشري الذي يتصور كل حدث ويفهمه في إطار الفضاء والزمن، أو وضعه ضمن إطار السببية وهذا هو شكل المعرفة

ومن ذلك نستنتج أن "كانت" يؤكد على أن المعرفة الإنسانية لها حدود دقيقة، أي أن تساؤلات مثل هل روح الإنسان خالدة؟ هل الله موجود؟ هل الكون زائل؟ الإجابة عليها ليست من اختصاص الإنسان، هذا لا يعني أنه يرفض التساؤل عنها بل أنه يريد أن يقول إن هذه التساؤلات تجعل العقل يعمل في خارج حدود المعرفة. هذه التساؤلات تجعل العقل يدور في فراغ لعدم وجود ظواهر حسية أو تجارب ملموسة تشكل مرجعاً في خلود الكون أو احتمالية زواله على سبيل المثال. فالعقل له حق التساؤل عن هذه الأسئلة والإنسان المتسائل ينتج دوماً ولكن يجب أن ندرك حدود العقل حتى لا يدخلنا جهلنا بأجوبة هذه الأسئلة في حيرة وإحباط المأزق المعرفي. فوجود الله عند "كانت" لا يمكن إثباته بالتجربة ولكنه يرى أنه مسلمة لا تحتاج إلى برهان فوجوده هي ضرورة أخلاقية.

القوانين الأخلاقية عند كانت هي التصرفات التي يكون فيها الانتصار على الذات حتى تستحق صفة "عمل أخلاقي" ويصوغ ذلك بعدة عبارات: 
-       تصرف فقط بحسب الحكمة التي تجعلك تتمنى تحويلها إلى قانون كوني.
-       تصرف وكأنك تتعامل مع البشرية كلها ممثلة بشخصك، كما أنها ممثلة بكل شخص آخر.. دائماً كهدف لا كوسيلة.
ونستنتج من القانون الأخلاقي عند كانت بما أننا كائنات تشكل جزءاً لا يتجزأ من نظام الكون فهذا لا يمكننا من ممارسة أية إرادة، فنحن كائنات تنعم بالعقل، نمارس حريتنا باتباع عقلنا التطبيقي الذي يسمح لنا باتخاذ القرارات في إطار قانون أخلاقي يحترم من يشاركنا هذا الكون، فاتباع غرائزنا بانفلات لا يبرهن على حريتنا بل بالعكس يجعلنا عبيداً لرغباتنا وأنانيتنا، وبذلك يرى أننا نحتاج إلى قدر كبير من الحرية كي نتخلص من رغباتنا وغرائزنا. فالحيوانات لا تعيش إلا لإرضاء غرائزها وحاجاتها، فكيف لها أن تكون حرة باتباع القانون الأخلاقي؟ لذا فإن الحرية هي وحدها التي تجعل منا بشراً. 

وأختتم هنا الحديث المختصر عن "كانت" بتاريخ وفاته عام ١٨٠٤م، وبذلك انتهت مرحلة من مراحل  تاريخ الفلسفة، وبزغ فجر مرحلة جديد أُطلق عليها مصطلح الرومانسية والتي ستكون موضوع المقال القادم بإذن الله. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عالم صوفي (رواية حول تاريخ الفلسفة) / جوستاين غاردر / دار المنى

لمتابعة قناة حرم الجمال يوتيوب ( أنقر هنا ) 
لمتابعة قناة حرم الجمال تيليجرام ( انقر هنا)
بودكاست حرم الجمال (ساوند كلاود) ( انقر هنا)

بودكاست حرم الجمال (أپل بودكاست) ( انقر هنا)

تعليقات

  1. Your Affiliate Money Printing Machine is ready -

    And making profit with it is as easy as 1, 2, 3!

    This is how it works...

    STEP 1. Choose which affiliate products you intend to promote
    STEP 2. Add PUSH button traffic (it LITERALLY takes 2 minutes)
    STEP 3. See how the system grow your list and sell your affiliate products all for you!

    Are you ready to make money ONLINE??

    The solution is right here

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

تاريخ المكتبات (١).. مكتبة إيبلا هي الأولى

باهَبَل مكة Multiverse - رجاء عالم