باهَبَل مكة Multiverse - رجاء عالم

  

جميعنا يعرف تاريخ مكة المكرمة مهبط الوحي، فكل مافي هذه المدينة نعرف تفاصيله وتاريخه، ولكن ماذا عن مجتمع هذه المدينة؟ ماذا نعرف عمن يسكن هذه المدينة؟ ماهي التفاصيل التي فرضتها قدسية هذه المدينة على هذا المجتمع من الداخل وما ذا كان الأثر؟ هذا ما تحاول أن ترويه الروائية رجاء عالم إبنة مكة المكرمة والتي تعرف تفاصيل هذا المجتمع، وكما يقال "أهل مكة أدرى بشعابها" فها هي رجاء عالم تأخذ بأيدينا بين هذه الشعاب وتدخل في تفاصيل عائلة مكية أسمتها عائلة السردار، عائلة ثرية من عوائل مكة المكرمة. من خلال هذه العائلة تتضح التركيبة الاجتماعية للعائلات الممتدة التي يكون فيها للأب الأكبر كامل السيطرة على هذه العائلة في كل سكناتها وحركاتها. وعبر تاريخ هذه العائلة نتعرف على المجتمع المكي منذ الأربعينات الميلادية، نتعرف على المكان والإنسان، كيف كانت مكة المكرمة وكيف أصبحت من بعد أن تحولت إلى مدينة الأبراج، كيف كانت التركيبة الاجتماعية وكيف تغيرت مع الزمن. 


الحكاية تبدأ من زمن وجدت فيه الجواري فكان لمصطفى السردار ابنة من جارية لم يعترف بأبوتها إلا بعد حين، فكيف كان اندماج تلك الفتاة مع بناته الأخريات؟ ومن هنا تأتي الصورة الأكبر لتصوير طبيعة حياة المرأة المكية في ظل ديكتاتورية الرجل والتي تفرضها قدسية المدينة، فالمجتمع المكي يجب أن يعكس طهر المكان ولكن ماذا تحت هذا السطح الظاهر؟ 


اقرأ في هذه المدونة "عبادة المشاعر" انقر هنا 


تحت هذا السطح "صرامة العبودية المبطنة التي خضعن لها، عبودية تأتي باسم الحب وباسم التكريم وصون العرض، لكنها تسحق وتطمس الهوية والوجود بجدارة. " فهل انتهت العبودية أم تغيرت صورتها في المجتمع المكي؟


نغوص في عادات المجتمع المكي في الزواج، وعند حالات الموت والولادة، نتعرف على الأفكار الاجتماعية نحو الجن، والحسد، والسحر ومدى سيطرة هذه الأفكار وتأثيرها على تسيير حياة المجتمع. نتعرف على طبيعة حياة المرأة المكية، "بنت الأصل والفصل لا يلمح ظفرها غريب، تموت مستورة من بيتها لقبرها". فالمكيات "باسم الحياء يحجب عنهن اسم العروس المنتظرة، إذ لا بد أن تؤخذ البنت بغتة وتلقى بين ذراعي الرجل قبل أن يتاح لها الحلم بالعشق، بلا فسحة للحلم ودفعة واحدة تفض براءتها" فلا الزوج يعرف الفتاة التي اختيرت له ولا الفتاة تعرف من سيكون زوجها. عادات أريد بها إضفاء العفة والقدسية على الحياة وهي أبعد ما تكون عما يمثله هذا الدين المقدس التي كانت مكة المكرمة مهبطه. 

 

لم تكن هذه العبودية والصرامة تقتصر على النساء فقط، بل تأخذنا رجاء عالم بسرد بديع لقصة حفيد هذه العائلة والذي يروي سيرة عماته نورية وسكرية وحورية، حالماً بحسه الفني أن يجسد هذه السيرة في فلم وثائقي يروي تفاصيل الحكاية.  عباس حفيد مصطفى السردار يمثل صورة التشظي في هذا المجتمع وصراعه بين واقعه وبين ما يجب أن يظهر، فمن خلاله صورت رجاء عالم فصام هذا المجتمع، عباس، هو نوري، هو با هبل أي الشاب الأبله، شاب سببت له صدمات الحياة  وتغيراتها منذ حادثة الحرم وما بعدها من تغيرات في المجتمع بالإضافة لديكتاتورية  الجد الأكبر الذي أراد أن يسير كل فرد من العائلة على الصورة التي يجب أن تكون عليه العائلة المكية بطهرها ونقائها الذي يتخيله هو فقط. لم يستطع عباس أن يعبر عن مواهبه أو ميوله الفنية، لم يستطع أن يدرس التخصص الذي يريده، فالعمل بغير أعمال العائلة يعد انتقاص من وجاهة العائلة ومكانتها، فأدى كل ذلك إلى إصابته بالفصام ليعيش بشخصيتين متناقضتين من خلالها تدخل رجاء عالم في عالم الفانتازيا من خلال الحوار بين هاتين الشخصيتين ، شخصية عباس ونوري. "لفرط ما جُوع للحلم قام باختراع نوري ليحلم عنه، هلوسة ترمم تشققات دماغه المحروم من الحلم." فنشعر بعمق معاناة المصاب بهذا النوع من الأمراض فكان مشهد البداية الذي يسيل منه هذا السرد هو الانتحار، وهذا ما يؤول إليه حال المصاب بالفصام غالباً. 


اقرأ في هذه المدونة "في مديح الموت" انقر هنا 


تتجسد أعراف وأحكام المجتمع المكي فيما قالته سكرية: "أكبر حبس عشناه كان في كلمة "عيب". عيب تخرج، عيب تشوف، عيب تسمع، عيب تضحك بصوت أو ترد كلمة بنقاش. تعرف القضا والقدر؟ كلمة الكبار قضاء وقدر يحرم علينا نرده أو نناقشه". "الديكتاتورية طلعت من رجال مكة ويتوارثونها حتى آخر عِرق". 

"تعرف نار الحداد؟ نار الحداد اللي يطوعونا بها متلخصة في كلمة ونصف: برضايا عليك! كلمة ونصف جهنم، تقوّم كل انفلات وكل حلم يخالف مقاساتهم الضيقة." 

"نعم، أهل مكة من زمن دنيتهم صناع اصنامهُبل وذو العزة وأبو تمرة... السردار الكبير صنم. صنم يهابونه."


عند الحديث عن مكة لا بد وأن يكون لجدة اتصال وثيق بهذا المجتمع، جدة هي المتنفس لأهل مكة فمن أراد أن يتحرر من ضغوطات المجتمع المكي فيجب أن ينتقل إلى جدة وإن كان سيبقى هذا المنتقل من مكة خائن في نظر المكيين، "مغادرة مكة خيانة روحية".  جدة هي المجتمع المنفلت في نظر المكيين بالرغم أنه لا يفصلها عن مكة سوى سبعين كيلو متراً، ولكن لموقعها على البحر واختلاط الثقافات فيها أثراً أكبر لانفتاحها على العالم. 

 

تدور الحوارات بين شخوص وأبطال الرواية بلهجة مكية قح، إذ أن "الحكاية لا تستقيم إلا بالتعبير عنهم بلغتهم المكية. كانت موسيقى اللهجة المكية تلح عليّ في أصداء تترجع في قلبي وقلوب مكية رحلت لكنها باقية في كياني". أعتقد بأن كثير من قراء العالم العربي لن يفهم الكثير منها، ولن يفك شفرات رموزها وصورها، قد لا يؤثر فهم هذه الكلمات على الفكرة العامة والمعنى، ولكن قد يُفقد القارئ شيء من متعة السرد لذلك كنت أتمنى أن تُشرح هذه المفردات حتى يصل جمال السرد وعمقه لكل من يقرأ هذه الرواية البديعة ولكن قد يفسر السياق كثير من هذه الكلمات. 

 

أورد لكم بعض هذه الأمثلة لغريب (باهبل)، وقد تختلف معاني بعض الكلمات باختلاف السياق. 

الكلمة 

السياق 

المعنى 

قُنعة

فيلتك راقصة تانغو إفرنجية تُقنعها بقُنعة عجوز مكاوية

القنعة خمار المرأة

بِزرة

اشتريتوني بِزرة من الدكة من عشرين سنة

بزرة: طفلة او فتاة صغيرة 

اللّعْوَتَة، الُمقَاوَحة

ما تعلمت إلا اللعوتة والمقاوحة والنطاح من نزلتها للسوق

اللعوتة: اللف والدوران وعدم الوضوح في الحديث من أجل إخفاء الحقيقة والمقاوحة: الجدال 

بلبوص 

أخلع لهم بلبوص ويفلتوني هذه الفلتة أشم الهوا

بلبوص: عارياً من الملابس 

تِزبُق

يا واد لا تزبق شايفك 

يزبق: يحاول التخفي 

مُتصربع

يا ولد مالك مُتصربع

متعجل 

الوَدْوَدَة

خلينا في الود والودودة 

الودودة: التحدث بهمس أو التناجي 

 

 با هبل- رجاء عالم (انقر هنا

دار التنوير 

الطبعة الأولى ٢٠٢٣


لمتابعة منصات حرم الجمال (انقر هنا)

 

تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

رواية خرفان المولى (نظرة تحليلية للبنية النفسية للنص)

تاريخ المكتبات (١).. مكتبة إيبلا هي الأولى