عالم صوفي* .. رحلة تطور الفكر الإنساني (٦)

An engraving of Hume from the first volume of his The History of England, 1754

وصل بنا الحديث في المقال السابق إلى سبينوزا وديكارت، أهم فلاسفة العصر القوطي (انقر هنا) وبذلك انتهى بنا الحديث عن فلاسفة المنهج العقلاني والذي يؤمن فلاسفته بسلطة العقل وبأنه الأساس الوحيد للمعرفة وسنبدأ في هذا المقال بفلاسفة المنهج التجريبي الذين يتبنون وجهة نظر تقول أن أي وعي للأشياء أو الأحداث لا يتكون لدينا قبل أن ندركها بواسطة حواسنا وبذلك فإن التجريبي هو الذي يستنتج كل معلوماته عن العالم مما تنقله إليه حواسه و الصيغة الكلاسيكية لهذا المنهج هو أرسطو والذي مر بنا الحديث عنه في المقال الثاني من هذه السلسلة (انقر هنا).

تم نقض المنهج العقلاني على يد أصحاب المنهج التجريبي ابتداء من القرن الثامن عشر وكان من أهم فلاسفة هذا المنهج هم لوك، بيركلي، وهيوم وثلاثتهم انجليز وسنبدأ الحديث بجون لوك. 

اقرأ في هذه المدونة "عالم صوفي .. رحلة تطور الفكر الإنساني (١) انقر هنا

جون لوك (١٦٢٣ – ١٧٠٤ م) وقد كان منهجه الفلسفي يبحث في مسألتين رئيسيتين، الأولى: تساؤله عن أصل الأفكار والتصورات البشرية، والثانية: تساؤله عن مصداقية حواسنا. ننطلق نحو التساؤل الأول من باب اقتناعه بأن الوعي الإنساني من قبل الحواس يكون صفحة بيضاء ثم تبدأ الأفكار والصور بالتكون في رؤوسنا من خلال تجاربنا المختلفة. بمعنى أن الوعي قاعة بدون أثاث، ثم بفضل حواسنا؛ النظر، الشم، الذوق، اللمس، السمع تبدأ ما يسميه لوك بالأفكار الحسية البسيطة في التكون، تخضع هذه الأفكار الحسية مجادلات وتحليلات وهذه الاستجابات الذهنية التحليلية يسميها لوك الأفكار المنعكسة وبذلك يظهر لنا الفرق بين الإدراك والتفكير. فبحواسنا نكوّن أفكاراً بسيطة عن شيء ما، ملمسه، طعمه، أو رائحته وما إلى ذلك، تجتمع هذه المعطيات ويتم معالجتها بالتفكير الذي يجعلنا ندرك ماهية هذا الشيء. ومن هنا ندخل إلى التساؤل الثاني للوك، بأي قدر يمكننا الوثوق في حواسنا، هل ما عكسته داخل وعينا سيعطينا الصورة الحقيقية عما نريد ادراكه؟ هل العالم فعلاً كما نراه؟  من هذا المنطلق سعى لوك للتمييز بين الصفات في مجال الحواس فقسمها إلى صفات أولية وصفات ثانوية. 
الصفات الأولية للحواس تعطي على سبيل المثال الحجم، الوزن، الشكل، العدد وما إلى ذلك فهذه الصفات إن لم يتفق عليها الجميع، قد يتفق عليها الكثير، والوصول إلى حقيقتها أسهل من الصفات الثانوية كالطعم أو الرائحة أو الصوت حيث أنها تختلف من شخص إلى آخر استناداً إلى الأجهزة الحسية وتباينها في كل إنسان وإلى الذوق الذي يتفرد به كل إنسان عن الآخر. 
وهذه الفلسفة أضافت إلى الوعي الإنساني مدى تفرد كل إنسان عن الآخر، ومهدت إلى تفهم الاختلاف، وبالتالي احترام الاختلافات بين البشر الذي يؤدي بدوره إلى بناء مجتمع إنساني راقي. 

اقرأ في هذه المدونة "عالم صوفي .. رحلة تطور الفكر الإنساني(٣) انقر هنا 

جورج بيركلي (١٦٨٥- ١٧٥٣م) كان أسقفاً وفيلسوفاً في الوقت ذاته ويرى أننا نحن البشر لا ندرك جوهر المادة ويدعي أن أفكارنا التي ندرك بها الأشياء لها سبب خارج عن وعينا وهذا السبب روحي لا مادي وهذه الأسباب الروحية تحددها روحاً أخرى أو إرادة أخرى ويقصد بها الله. حتى أنه يقول بأن إدراك وجود الله هو أوضح بكثير من ادراك وجود البشر لأن كل ما نراه ونحس به هو نتيجة لقدرة الله فهو من يبعث فينا الأفكار والتصورات المتنوعة، فالعالم كله ووجودنا كله يسكنان بين يدي الله وهو العلة الوحيدة لكل موجود.  

ديفيد هيوم (١٧١١ – ١٧٧٦م) هو أكثر الفلاسفة التجريبيين تأثيراً إذ أنه اهتم بتنظيم المفاهيم والبنى الفكرية التي توصل إليها الفلاسفة الذين سبقوه. واعتمد على وضع نفسه مكان الأطفال حيث أنه يرى أنهم هم الشهود على الحقيقة، لأن الطفل لا يحمل أفكاراً مسبقة، وتحليل الأحداث والتفكير والحكم على الأشياء بمنأى عن الأفكار المسبقة هي ميزة الفيلسوف وأيضاً الطفل الذي لم تشوه الصور النمطية رؤيته للحياة. 
يرى هيوم أن الإنسان تتمثل له الأشياء من خلال الأحاسيس والتي هي التصورات الحادة والمباشرة للعالم الخارجي، ومن خلال الأفكار والتي هي الصورة المتعلقة أو المتكونة عن هذه الأحاسيس. عندما تجتمع هذه الأفكار ويتم الربط بينها قد يكون هذا الربط غير مطابق للواقع نتيجة برمجة وتحليل الأحاسيس الأولى بشكل خاطئ.
لذلك يرى هيوم أهمية تجزئة التصورات التي توصل إليها الإنسان إلى أحاسيسها الأولى التي كونتها حتى يرى إذا ما كانت حقيقية أو أنها تتطابق مع الواقع في شئ. يرى هيوم بذلك أن تصور الإنسان إلى الصور الكهنوتية، كالملائكة المجنحة، والأبواب في السماوات وما إلى ذلك هي تصورات نشأت عن أحاسيس و أفكار مسبقة تركبت بطريقة خاطئة بسبب قدرة الذهن على نسج صور يعطيها احساساً حقيقياً من بعد أن يربط بينها. ونستطيع من ذلك أن ندرك أن آخر خيط بين الإيمان والفلسفة قد قطع مع فلسفة هيوم.

اقرأ في هذه المدونة "عالم صوفي .. رحلة تطور الفكر الإنساني(٤) انقر هنا 

عاش هيوم في عصر فولتير وروسو أي في عصر التنوير وهو من جعل الفيلسوف الشهير "كانط" يعثر على خطه الفلسفي الخاص. وبذلك سيكون الحديث في المقال القادم عن فلاسفة عصر التنوير. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عالم صوفي (رواية حول تاريخ الفلسفة) / جوستاين غاردر / دار المنى


لمتابعة قناة حرم الجمال يوتيوب ( أنقر هنا ) 
لمتابعة قناة حرم الجمال تيليجرام ( انقر هنا)

بودكاست حرم الجمال (ساوند كلاود) ( انقر هنا)

بودكاست حرم الجمال (أپل بودكاست) ( انقر هنا)






تعليقات

  1. As stated by Stanford Medical, It's indeed the SINGLE reason this country's women live 10 years more and weigh on average 42 lbs lighter than we do.

    (Just so you know, it is not about genetics or some hard exercise and really, EVERYTHING related to "HOW" they eat.)

    P.S, What I said is "HOW", not "what"...

    TAP this link to reveal if this little questionnaire can help you find out your real weight loss potential

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

رواية خرفان المولى (نظرة تحليلية للبنية النفسية للنص)

تاريخ المكتبات (١).. مكتبة إيبلا هي الأولى