عالم صوفي * .. رحلة تطور الفكر الإنساني (٢)

لوحة اعدام سقراط - جاك لوي ديڤيد - ١٧٨٧م

"إن تاريخ الفكر هو دراما مسرحية من عدة فصول"

من بعد الحديث عن الأساطير وأسباب نشوءها ثم ظهور من يُطلق عليهم فلاسفة الطبيعة وهم من يهتمون بالتحليل الفيزيائي للعالم، أبتدئ لكم اليوم المرحلة الجديدة من رحلة الفكر الإنساني والتي بدأت عندما استُبدلت دراسة الطبيعة بدراسة الإنسان وموقعه في المجتمع عندما بدأت تتشكل أول أشكال الديموقراطية والتي كان أحد أهم الشروط لإقامتها هو بناء شعب مستنير يستطيع المساهمة في هذا المشروع. وأهم عوامل الاستنارة هي اتقان فن الحوار، عندها ظهر من أساتذة الفلسفة من أطلقوا على أنفسهم لقب (السفسطائيين) وتعني الرجل المثقف الكفؤ. كان اهتمامهم مُنصَب على الإنسان وموقعه في المجتمع، كانوا يجولون حول العالم ويعاينون الفروقات بين المجتمعات وطرق الحكم، وبدأوا بالجدل حول ما حددته الطبيعة وما حدده المجتمع وأرسوا بذلك قواعد النقد الاجتماعي. وممن عرف من هؤلاء السفسطائيين هو بروتاغوراس (٤٨٧-٤٢٠ ق.م) والذي يقول "الإنسان هو مقياس كل شيء" بمعنى أن مفاهيم الخير والشر تُقدر بحسب حاجات الكائن البشري. وإنكارهم هذا لوجود المعايير المحددة للخير والشر في المجتمع كان نقطة الخلاف بينهم وبين سقراط الذي يبرهن على وجود المعايير المحددة للخير والشر في المجتمع وأن منها ما يكون صالحاً للجميع على اختلاف المجتمع أو طريقة حكمه.


اقرأ في هذه المدونة "عالم صوفي .. رحلة تطور الفكر الإنساني (١) انقر هنا


سقراط : (٤٧٠ – ٣٩٠ ق.م)
أكثر الشخصيات المؤثرة في الفكر الغربي بالرغم أنه لم يكتب سطراً واحداً بل كان يجوب الشوارع والساحات مؤمناً بفن الحوار، معطياً الانطباع بأنه هو من يريد أن يتعلم من محدثه، يناقش ويسأل، حتى يحفز محاوريه على التفكير، يزرع في دواخلهم أهمية التفكير والبحث. فمبدأ سقراط هو أن المعرفة الحقيقية لا تأتي إلا من داخل كل منا دون أن يستطيع أحد قذفنا بها، ولكن تحتاج إلى من يحفزنا للبحث عنها، وعندما يبدأ الإنسان بالتفكير يجد أجوبته داخل نفسه.

يؤمن سقراط بأن القدرة على التمييز بين الخير والشر تكمن في عقل الإنسان لا في المجتمع وبذلك لا يمكن للإنسان أن يكون سعيداً لو تصرف عكس قناعاته حتى لو أنه أرضى المجتمع الذي يعيش فيه. يؤمن بوجود بعض القواعد الأبدية الخالدة غير الآنية فيما يخص الخير والشر ونستطيع الوصول إليها طالما أننا نستخدم عقلنا وذلك يعني أن العقل دائم وأزلي.
يقول شيشرون أن سقراط "أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض وتركها تعيش في المدن، تدخل البيوت، مجبرة الناس التفكير بالحياة، بالتقاليد، بالخير والشر".

في العام ٣٩٩ ق.م اتهم بأنه أدخل آلهة جديدة وأفسد الناشئة وأدين بأكثرية ضئيلة أمام محكمة من خمسمئة عضو، وحكم عليه بالإعدام. وبعد وقت قليل جرع كأس السم بحضور أقرب أصدقائه. ووقع ميتاً.


اقرأ في هذه المدونة "توأم الروح" انقر هنا 

أفلاطون: (٤٢٧ – ٣٤٧ ق.م)
هو تلميذ لسقراط وقد كان في التاسعة والعشرين من عمره عندما جرع سقراط السم. وكان له الفضل في نقل مرافعة سقراط، نقل أعماله في عدة رسائل، خمس وثلاثون محاورة فلسفية كاملة كان الفضل في الحفاظ عليها هو انشاء مدرسته الفلسفية في حديقة تحمل اسم البطل الإغريقي أكاديموس ومن هنا سميت منشآت التعليم بالأكاديمية.

فكره الفلسفي:
-       يهتم بالعلاقة بين ما هو أزلي، وغير فان من جهة وما هو آني وزائل من جهة أخرى. السفسطائيون يعتقدون أن مفاهيم الخير والشر، الخطأ والصواب هي نسبية، ويمكن أن تتغير من إنسان لآخر ومن مجتمع لآخر بمعنى أنها ليست أبدية، وهذا ما يرفضه سقراط إذ كان معتقداً بوجود بعض القواعد الأبدية الخالدة غير الآنية فيما يخص الخير والشر. ونستطيع الوصول لهذه المعايير بواسطة العقل، وبذلك يكون العقل دائم وأزلي. أما أفلاطون فيهتم بما هو دائم، ثابت وأزلي، في الطبيعة، في الأخلاق، والحياة الاجتماعية.

-       يقول بوجود حقيقة أخرى وراء عالم الحواس. وهذه الحقيقة هي ما أسماه عالم الأفكار. وهناك توجد المثل الأبدية والثابتة، القائمة في أساس الظواهر الطبيعية، ويشكل هذا المفهوم الخصوصي نظرية الأفكار.

-       يقسم أفلاطون الواقع إلى قسمين: الأول: عالم الحس الذي يعطينا معرفة تقريبية وغير كاملة باستخدامنا الحواس الخمس. والتي هي بطبيعتها تقريبية وغير كاملة. عالم الحواس هذا دائماً في حالة تحول وليس فيه شيء دائم. الثاني: مكون من عالم الأفكار الذي يسمح لنا بالوصول إلى المعرفة الحقيقية عن طريق استعمال العقل. عالم الأفكار هذا مستعص على الحواس. وبالتالي فإن الأفكار أو المثل هي أزلية ثابتة.


-       يرى أفلاطون أن الإنسان مركب من جزئين، الأول: الجسد، ويخضع للتحولات ومرتبطاً بعالم الحواس، وبما أن حواسنا مربوطة بالجسد فهي غير موثوق بها.
الجسد بدوره مقسم إلى ثلاثة أقسام، الأول: الرأس، مقر العقل. ويجب أن يكون هدف العقل الحكمة. الثاني: الجذع مقر الإرادة. وهدفها أن تقدم الدليل على الشجاعة. الثالث: أسفل الجسد، مقر الشهوات والرغبات. وضبطها دليل اعتدال للحصول على انسان متناغم متوازن.

لذلك يجب أن يتعلم الأطفال في المدرسة كيف يضبطون رغباتها، ثم ينمون شجاعتهم، وأخيرايجب أن يقودهم العقل إلى الحكمة.

أما الجزء الثاني من الإنسان هو الروح التي يرى أنها كانت موجودة من قبل الجسد وما أن تستيقظ لتجد نفسها في جسد بشري حتى تنبع رغبتها في العودة إلى مسكنها الحقيقي، وهذه الرغبة هي ما أسماها أفلاطون (ايروس) ومعناها الحب، فعلى أجنحة الحب تعود النفس إلى مسكنها في عالم الأفكار اذ تتحرر من سجن الجسد.

اقرأ في هذه المدونة "الإنسان وعبثية الحياة" انقر هنا 

أرسطو : (٣٨٤-٣٢٢ ق.م)
كان تلميذا لأفلاطون في أكاديميته لمدة عشرين سنة. ركز اهتمامه على الطبيعة الحية ولعل ذلك يعود إلى أن أبيه كان طبيباً معروفاً وعالماً، فكان أرسطو بذلك أول عالم أحياء في أوروبا، تدين له أوروبا بتبلور لغة علمية خاصة بكل علم أي أنه وضع منهجية للتفكير. أسس علم المنطق انطلاقاً من جمعه لكل ما قاله فلاسفة الطبيعة وأعاد تنظيم مفاهيمها.

-       الشكل والمادة عند أرسطو:
المادة هي ما يتكون منه الشيء أما الشكل فمجموع ميزات الشيء الخاصة والنوعية.

-       السعادة عند أرسطو:
يرى أرسطو أن السعادة في ثلاث أشكال، أولاً: الحياة، وتكون في المتعة والتسلية. ثانياً: أن تعيش كمواطن حر ومسؤول. ثالثاً: أن تعيش عالماً أو فيلسوفاً. يجب أن تجتمع أشكال السعادة هذه كي يعيش الإنسان حياة سعيدة أي أن التوازن والاعتدال هو الوسيلة الوحيدة للإنسان كي يعرف السعادة أو التناغم.

-       الدولة عند أرسطو:
يعد أرسطو أشكال الدولة الناجحة هي، أولاً: الملكية، وفيها رئيس واحد ويجب أن يكون صالحاً حتى لا يوجه الأمور لصالحه ويتفشى الطغيان. ثانياً:الأرستقراطية، عدد متفاوت من المسؤولين ويجب أن لا يبقى أمر البلاد مركز في مجموعة واحدة فقط بما يسمى اليوم ( الطغمة العسكرية). ثالثاً: الديموقراطية، وهذا قد يتحول لدولة شمولية في حال عدم تطبيقه بشكل صحيح.

تطرق الحديث خلال السرد عن فكر أرسطو في الشكل، والمادة والتحول بينهما، وعن فكرته في الظواهر السببية في الطبيعة حيث أنه يرى أن هناك عدة أنواع من العلل في الطبيعة تفسر حدوث هذه الظواهر، ثم الحديث عن المنطق وعلم الأخلاق. وحتى لا يطول بنا المقال في سرد كل هذه المعلومات في هذا المقال هذا جدول يقارن بين أفكار أفلاطون وتلميذه أرسطو. 

أفلاطون
أرسطو
أدار ظهره لعالم الحواس ليذهب إلى وراء كل ما يحيط بنا إلى عالم الأفكار.
انكب على دراسة الأحياء الأسماك الضفادع الورود. مستخدماً حواسه بجانب عقله.
كان شاعراً، ومبدع أساطير،بذلك تكون كتاباته أقل قسوة.
تتسم كتاباته بالجفاف والوصفية، مستندة إلى الأبحاث الميدانية.
يرى أعلى درجات الواقع تتألف مما نفكر به بعقلنا.
يرى أن أعلى درجات الواقع هي ما ندركه بحواسنا
يرى أن كل ما نراه حولنا هو انعكاس لشيء ما في عالم الأفكار وبالتالي في النفس الإنسانية.
يرى أن ما هو موجود في النفس الإنسانية هو انعكاس لأشياء الطبيعة، والطبيعة وحدها هي ما يشكل العالم.
بحسب أرسطو أن أفلاطون أسير العالم الأسطوري حيث يعرض الإنسان تصوراته ويحلها محل العالم الواقعي. حيث أنه يقول ما من شيء يوجد في الطبيعة لم يوجد قبلاً في عالم الأفكار.
يرى أنه ما من شيء يمكن أن يوجد في الوعي قبل أن يدرك بواسطة الحواس. وبالتالي فإنه لا أفكار فطرية لدى الكائن البشري.
يرى أن الإنسان يولد بوعي وأفكار فطرية.
يعتقد بأن أفكارنا تجد أصلها فيما نرى ونسمع. نولد بعقل وهذا العقل يكون فارغاً قبل أن تبدأ الحواس بإدراك الأشياء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عالم صوفي (رواية حول تاريخ الفلسفة) / جوستاين غاردر / دار المنى


لوحة وقصة - ٠٣ - مدرسة أثينا / رافاييل

لمتابعة قناة حرم الجمال يوتيوب ( أنقر هنا ) 
لمتابعة قناة حرم الجمال تيليجرام ( انقر هنا)
بودكاست حرم الجمال (ساوند كلاود) ( انقر هنا)

بودكاست حرم الجمال (أپل بودكاست) ( انقر هنا)


تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

توأم الروح

من حياة الأدباء | ٠١| أونوريه دي بلزاك