عالم صوفي * .. رحلة تطور الفكر الإنساني (١)





عالم صوفي رواية للروائي النرويجي جوستاين غاردر يختصر من خلالها تاريخ الفلسفة بطريقة سلسة ماتعة تستند إلى شيء من الفانتازيا حتى يلطف أجواء المعلومات الهائلة التي تحتويها الرواية. ويستند إلى طريقة سردية تعكس المنهجية المثلى للتعليم وذلك من خلال إثارة الفضول لأن التعلم لا يعتمد فقط على المعلم ولكن أيضاً على الطالب وعلى مدى الفضول المُستثار داخله من قبل معلمه، فالفضول "عاطفة مصدرها الروح، تثيرها الأحاسيس والتصورات حول مواضيع نعرفها بشكل يعوزه الكمال، وهذه الحاسة لا تستثار اعتباطاً، بل هناك حقيقة بعينها تكون موضع اهتمامنا، فنحن نهتم بفكرة أو بحقيقة ما إذا ما كان لها وقع في أنفسنا وجذبت اهتمامنا بما يكفي لإرباكها بديناميتها."** وبذلك تُخلق الأسئلة، ويبدأ طريق البحث والمعرفة. وجوستاين غاردر بحكم عمله كمعلم فهو يمتلك هذا المفتاح في خلق الاهتمام بالموضوع وخلق الفضول المحفز للمعرفة لذلك عندما امتهن الأدب كان هذا المسار جزءاً من مهنته الأدبية فطعّم كثيراً من نصوصه بالمعرفة العميقة الموجهة للناشئين فكانت أعماله الأدبية عميقة ماتعة جسّد من خلالها إيمانه بأن الأدب لا يقل عن غيره من مجالات المعرفة المحفزة لإعمال العقل. وبما أن الأعمال الأدبية الاستثنائية تستلزم حكايات غير عادية كما يقول ألبرتو مانغويل، فقد كانت حكاية عالم صوفي حكاية غير عادية سكنت قلوب وعقول الكثير ممن قرأها، بل أني أعدها مرجعاً أساسياً لمن يريد أن يفهم تاريخ الفلسفة باختصار وخاصة ممن يفكر أن يخوض غمارها لاحقاً.

اقرأ في هذه المدونة "الإنسان وعبثية الحياة" انقر هنا 

صوفي أمندسون هذه الفتاة المراهقة التي كغيرها ممن في عمرها، ممن تمتلىء دواخلهم بالأسئلة ولا يستطيعون البوح بها غالباً لاستهتار البالغين بها أو انشغالهم عن إيجاد الإجابة عليها. أسئلة من نوع، أليس من غير العدل ألا نستطيع اختيار مظهرنا الخارجي؟ ما هو الكائن البشري؟ هل هناك حياة بعد الموت وما إلى ذلك من تساؤلات. صادفت في يوم من الأيام ورقة في صندوق بريدها، ورقة صغيرة مجهولة المصدر عليها جملة واحدة "من أنت" ؟ وكأن هذا السؤال كان الشرارة التي أشعلت سلسلة الأسئلة الكامنة في دواخلها، مصدرها المجهول أثار فضولها أكثر وكأننا نحن البشر نميل إلى المجهول وتقصيه. توالت الأحداث الغامضة والمراسلات المجهولة حتى التقت بأستاذ الفلسفة المجهول والذي أخذ بيديها لتقصي الإجابات عن أسئلتها، ويسهل لها تتبع تاريخ الفكر الإنساني وتطوره من زمن خلق الأساطير إلى العصور الحديثة، وما ستقرؤونه في سلسلة المقالات التي سأنشرها تباعاً ما هو إلا اختصار، واختصار شديد لما تضمنته هذه الرواية من معلومات اجمعها وأربط بينها لكم من بين ثنايا السرد، مع الإشارة إلى أن ما يُذكر هنا من معلومات لا أعتمد في عرضه لكم على أي مصدر آخر غير الرواية، حتى أوضح مدى ما تحتويه هذه الرواية من معرفة مطرزة بمتعة الأدب. ومن الجدير بالذكر أن الرواية موجهة إلى الناشئين في موطنها، فتخيل معي عزيزي القاريء هذا النوع من الأدب، وهذا النوع من القُرَّاء الذين ينشؤون على هذا النوع من الأدب، ماذا سيكون حالهم؟ 

اقرأ في هذه المدونة " المربع" انقر هنا 

ابتدأت الرواية بالأساطير التي نشأت عن الديانات التي أخذت على عاتقها الإجابة عن كل الأسئلة التي طرحها الإنسان. وانتقلت هذه التفسيرات الميثولوجية من جيل إلى جيل على شكل أساطير، فالأسطورة هي قصة موضوعها الآلهة، وتحاول أن تفسر الظواهر الطبيعية والإنسانية. تعمق غاردر في الميثولوجيا النرويجية والإله (تور)، وآلهة الخصب (فريا) والإله (هيمدال) وغيرهم ممن كانت حكاياتهم تقدم جواباً لما لا يستطيع الإنسان أن يفهمه. ثم تابع إلى أن انبثقت أول نظرة ناقدة للأسطورة عند الفيلسوف "كزينوفان" الذي عاش في نحو ٥٧٠ ق.م. وقال:"لقد خلق الناس الآلهة على صورتهم". كان الدور الأكبر للأسطورة هو تقديم التفسيرات المختلفة، وخاصة للظواهر الطبيعية، فانشغل الفلاسفة الإغريق الأوائل بإيجاد تفسيرات منطقية بعيداً عن الأساطير، وبذلك بدأ عصر فلاسفة الطبيعة

ابتدأ السرد بالخوض في فلاسفة الطبيعة وذلك بالغوص في نوع الأسئلة التي كانوا يبحثون عن أجوبتها، وعن نمط الإجابات التي يأملون الوصول إليها حتى يتسنى لنا إدراك نمط تفكيرهم. فابتدأ بطاليس والذي كان يعتقد بأن الماء أساس كل الكائنات، ثم أناكسيماندر والذي كان يعتقد أن عالمنا هو أحد عوالم كثيرة تظهر وتختفي فيما يسميه "المطلق" أي اللامحدود. ثم أناكسيمانس وكان يعتقد أن الهواء والضباب هما أصل الأشياء. وهؤلاء الثلاثة يطلق عليهم فلاسفة ميلي والتي كانت عبارة عن مستعمرة يونانية في آسيا الصغرى. ويشترك هؤلاء الثلاثة في اعتقادهم بأن العالم له مادة أولية ينشأ منها، ولكن كيف لهذه المادة أن تتغير إلى كل الأشياء التي نراها؟ والغوص في هذا السؤال انتقل بنا إلى الفيلسوف بارمينيدس والذي كان يرى أن كل ما هو موجود، قد وجد منذ الأبد، فلا يولد شيء من لا شيء، وما ليس موجوداً لا يمكن أن يصبح شيئاً. أما اعتقاده في الحواس فهو أنها لا تعطي إلا صورة كاذبة للعالم، صورة لا تتفق مع ما يقوله العقل. فتركّز عمله على خيانة الحواس والوفاء للعقل، وهذا الإيمان بعقل الإنسان هو بداية العقلانية وهي الإيمان بأن العقل هو مصدر كل معرفة في العالم. 

اقرأ في هذه المدونة "موت ايفان ايلتش.. حتمية الحياة والموت" انقر هنا

انتقل بعدها إلى عدة فلاسفة موضحاً النظرة العامة لفلسفتهم وعن آرائهم في العقل والحواس والإله، وهم هيراقليطس(٥٤٠-٤٨٠ ق.م) والذي كان يعتقد أن كل الأشياء في الطبيعة تغير شكلها باستمرار، وليس هناك ما هو أبدي بمعنى [لا نستطيع أن ننزل مرتين إلى النهر نفسه، ذاك أنني عندما أستحم للمرة الثانية يكون النهر قد تغير، وأنا أيضاً]، وبذلك نرى التناقض الصارخ بين هيراقليطس وبارمينيدس، فالعقل عند هذا الأخير يفسر كون لا شيء يتغير أي (أبدي)، والآخر يؤكد بتجربة الحواس أن الطبيعة متحولة. فهل نصدق العقل أم الحواس؟ 

جاء حينها الفيلسوف أمفيدوكليس (٤٩٤ – ٤٣٤ ق.م) وحاول حل هذه المعضلة وأوضح أن الاعتقاد بأن الكون له أصل واحد اعتقاد خاطئ وقال: الطبيعة تمتلك أربعة عناصر طبيعية، وأطلق عليها مصطلح الجذور، وهي التراب، الماء، الهواء، والنار. واعتقد بأن هناك قوتين تحرك الكون ألا وهي الحب والكره. ولكن أتى فيلسوف آخر بعد هؤلاء، لم يقتنع لا بفكرة العنصر الواحد ولا العناصر المتعددة وقال إن الكون مؤلف من جزيئات صغيرة لا تُرى بالعين، وكل جزء ينقسم إلى جزيئات أصغر ويبقى كل منها جزء من الكل، وهو الفيلسوف أنكزاغوراس (٥٠٠-٤٢٨ ق.م). تابع جوستاين غاردر حتى وصل إلى آخر الفلاسفة المهتمين بالطبيعة وأصل الكون وهو الفيلسوف ديمقريطس (٤٦٠-٣٧٠ ق.م) وكان يعتقد كسابقه أن الكون مركب من أجزاء صغيرة ولكن لكل جزء استقلاليته وغير قابل للانقسام وأسماها الذرات، وهذا ما ظهرت صحته اليوم فالطبيعة مكونة حقاً من ذرات تتجمع وتتفكك. وتابع غاردر في تفسير هذه الاعتقادات والأسئلة التي أدت إليها، وما نتج عن هذه الأسئلة من أفكار واعتقادات طورت الأفكار اللاحقة لها إلى أن وصل إلى سقراط والذي سأبدأ به الحديث في المقال القادم بإذن الله. 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عالم صوفي (رواية حول تاريخ الفلسفة) / جوستاين غاردر / دار المنى
** الفضول / ألبرتو مانغويل/ دار الساقي   



لمتابعة قناة حرم الجمال (يوتيوب) انقر هنا 
لمتابعة قناة حرم الجمال (تيليجرام) انقر هنا 
بودكاست حرم الجمال (ساوند كلاود) ( انقر هنا)

بودكاست حرم الجمال (أپل بودكاست) ( انقر هنا)



تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

توأم الروح

من حياة الأدباء | ٠١| أونوريه دي بلزاك