عالم صوفي*.. رحلة تطور الفكر الإنساني (٤)

Statue of Averroes in Córdoba

نستكمل الحديث عن رحلة تطور الفكر الإنساني كما تم سردها في رواية عالم صوفي لجوستاين غاردر وقد توقفت في المقال السابق انقر هنا عند الأفلاطونيين الجدد، حيث استمر الحديث بعدها خلال الرواية باقتضاب عن الساميين وظهور الأديان السماوية ابتداءً باليهودية، ثم المسيحية يتبعهما الإسلام، وأوضح أن الأساس في جميع هذه الأديان هو أنه لا وجود إلا لإله واحد، وأن جميع معتنقي هذه الأديان يمتلكون رؤية خطية للتاريخ بمعنى النظر إلى التاريخ كخط مستقيم، لا بد أن ينتهي وهذه النهاية هي يوم الحساب الأخير الذي يحاسب فيه البشر. 

انتشرت الديانة المسيحية إلى أن أصبحت هي الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية عام ٣٨٠م، بدأت في التوسع حتى عام ٥٢٩م، وتم في هذا التاريخ إقفال الكنيسة لأكاديمية أفلاطون في أثينا، وصدر قانون منح البركة والذي يعد أول قانون كهنوتي وضعت به المسيحية يدها على الفلسفة الإغريقية فسيطرت على التعليم، الفكر، والتأويل، فدخل بذلك الفكر الإنساني في ليل طويل امتد إلى ألف عام ساد فيه فكرة تتلخص في معرفة ما إذا كان يمكن الاكتفاء بالإيمان بالتجلي المسيحي أم يمكن ادراك الحقائق المسيحية بواسطة العقل. أية علاقة كانت بين الفلاسفة الإغريق وتعاليم الإنجيل؟ هل هناك تعارض بين الإنجيل والعقل؟ أم يمكن إقامة مصالحة بين الإيمان والمعرفة؟ 

تعمق السرد بشيء من التفصيل في قرون الظلام تلك حتى عرج على الثقافة الإسلامية في القرن السابع الميلادي. فبعد الفتوحات الإسلامية واطلاع المسلمين على العلوم اليونانية، لعب العرب والمسلمون خلال عصور الظلام في أوروبا دوراً مهيمناً في مجالات الرياضيات، الكيمياء، علم الفلك، الطب، والفلسفة. فالكندي كرس جهوده لتحقيق هدفين: أولهما الإحاطة بكل ما قاله الأوائل، وثانيهما إتمام ما لم يتمه الأوائل ووضع كل ذلك باللغة العربية. وعرج على ابن باجة، وابن الطفيل، وابن رشد. وأوضح ان علم الاجتماع مدين للعرب بسبب مؤسسه ابن خلدون الذي بنت على مقدمته الحضارة الإنسانية كل مفاهيم وأسس علم الاجتماع الحديث.

أما أشهر الفلاسفة المؤثرين في القرون الوسطى، أوغسطينوس (٣٥٤ – ٤٣٠ م) والذي اتبع عدة تيارات دينية وفلسفية قبل المسيحية كاتباعه للمانوية، وتأثره بفكر الكلبيين، وحتى بعد اعتناقه المسيحية ظل متأثراً بالأفلاطونية ولا يجد أي تعارض بين المسيحية وفلسفة أفلاطون، ويقول "أن في الدين حدوداً لا يمكن للعقل تجاوزها" وأن المسيحية سر إلهي لا يُدرك إلا بالإيمان وحده. ويقول: هناك فجوة بين الله والإنسان فجوة لا يمكن تجاوزها أو بلوغها. وبذلك ينفي فكرة أفلوطين بأن كل شيء واحد لأن الله واحد. وعليه فإن الإنسان عند أوغسطينوس كائن روحي له جسد مادي ينتمي به إلى العالم الطبيعي الخاضع للفناء وله روح هي التي يستطيع أن يعرف بها الله. 

اقرأ في هذه المدونة "عالم صوفي .. رحلة تطور الفكر الإنساني(١) انقر هنا 
  
ومن أشهر فلاسفة العصور الوسطى المتأخرة، توما الاكويني ( ١٢٢٥ – ١٢٧٤ م ) أول من حاول التوفيق بين أرسطو والمسيحية.وبذلك حاول الجمع بين الإيمان والمعرفة ولا يجد أن بينهما أي تعارض، وتبنى فلسفة أرسطو في كل المجالات التي لم تكن تتناقض فيها مع اللاهوت الكنسي. بعد سنوات من وفاة القديس توما الإكويني تصدعت الثقافة المسيحية وأخذت الفلسفة والعلوم في الانفصال التدريجي عن اللاهوت الكنسي فاكتسبت الحياة علاقة أكثر حرية مع العقل، حينها ظهرت حركة تجديد ثقافي كبيرة ابتدأت بوادرها مع نهاية القرن الرابع عشر الميلادي ابتداءً من  شمال إيطاليا ثم توسعت وانتشرت بعد ذلك. وهذه الحركة هي ما أدخلنا فيما عرف بعصور النهضة. 

يرسم لنا السرد الروائي هنا أبرز ملامح فكر عصر النهضة والذي يدعو إلى العودة إلى الإنسانية وأول ما أدخلته النهضة إلى الفكر هو (رؤية جديدة للإنسان)، أي الإيمان بقيمة الإنسان الذي كان لا يعد في العصور الوسطى إلا مخلوق خطّاء، فظهر بذلك مصطلح الإنسانية لأنه حينها كان الانطلاق من الإنسان في حين كان الانطلاق في القرون الوسطى في جميع مناحي الحياة على ضوء الإله والدين.  وبذلك تم التركيز على الإنسان الفرد فنحن لسنا بشراً فقط بل أفراد متميزون، وبذلك ظهر في هذا العصر مصطلح (إنسان النهضة): أي الإنسان المهتم بكل ما يتعلق بالحياة والفن والعلوم. 
نشط الاهتمام بجسم الإنسان وفردانيته فبرز الاهتمام بعلم التشريح، وعاد الفن إلى رسم الجسم العاري ليهيء الإنسان من جديد على أن يكون ذاته وأنه ليس في الإنسان عيب يدعوه إلى الخجل من ذاته. تم التركيز على أن الإنسان ليس موجوداً فقط لخدمة الله، فالله خلق الناس لأنفسهم أيضاً ويريد لهم الاستمتاع بالحياة وهذا ما يعطي الإنسان الطاقات اللامحدودة للإبداع حينها تحركت الطاقات وظهر المنهج التجريبي أي اخضاع كل مشاهدة للطبيعة إلى إدراك الحواس، إلى تجربتنا، وإلى الاختبار فظهرت الاختراعات وبرز العلماء ودور العلم، وهذا لا يعني انعدام مقاومة الكنيسة لذلك ولكن كان البقاء والاستمرار للعقل والعلم. 

اقرأ في هذه المدونة "عالم صوفي .. رحلة تطور الفكر الإنساني(٢) انقر هنا 

من أشهر علماء عصر النهضة نيقولا كوبرنيكسون والذي ألف كتاباً عنوانه (عن حركة الأجسام السماوية) ظهر لأول مرة في العام ١٥٣٤م يؤكد من خلاله أن الشمس لا تدور حول الأرض وإنما العكس. 
جوهانس كيبلر: برهن أن الكواكب تتبع مسارات بيضاوية تشكل الشمس إحدى بؤرتيها. وبهذا يكون كيلبر أول من وضع الأرض في صف الكواكب الأخرى وأكد أن الكون يخضع للقوانين الفيزيائية ذاتها. 
غاليليو: درس صفات القمر وأكد وجود جبال ووديان على سطحه. اكتشف أن للمشتري أربعة أقمار. أول من اكتشف قانون الجمادية: (تحافظ السرعة الأصلية للجسم السماوي بدقة على نسبتها طالما لا تتدخل الأسباب الخارجية للبطء أو التسريع). 
إسحاق نيوتن: جاء بعد غاليليو وعاش بين ١٦٤٢ و١٧٢٧ وهو آخر من أعطى الوصف النهائي للنظام الشمسي وحركة الكواكب حيث أنه لم يكتف بوصف حركة الكواكب حول الشمس وأوضح سبب ذلك بفضل اكتشافات غاليليو. 

يظهر لنا هنا المسافة التي ظهرت بين اللاهوت والعلم في عصر النهضة خصوصاً عند مقاومة الكنيسة لهذه العلوم والأفكار التي لم تمر بسلام دوماً وإنما شهدت أحداثاً مأساوية عدة، وهذا مما أدى إلى ظهور نوع جديد من التدين، ونشوء علاقة جديدة بفكر جديد بين الإنسان والله فظهرت حركة إصلاح ديني أرسى قواعدها مارتن لوثر فبدأ مرحلة جديدة تركزت جهوده فيها على إيضاح فكرة أن الإنسان ليس بحاجة للمرور بالكنيسة أو الكهنة للحصول على الغفران، وأن الإيمان وحده هو الذي يمنح الإنسان خلاصه (مجاناً). ومن أبرز مما قام هو ترجمة الإنجيل إلى الألمانية من بعد أن تعلم الإغريقية في الخامسة والثلاثين وبذلك مكن كل شخص من قراءة الكتاب المقدس من بعد أن كان مقتصراً فقط على أشخاص معينين في الكنيسة وبذلك ردم فجوة عظيمة حالت بين الإنسان البسيط وبين محاولة الاستكشاف الذاتي للدين.   

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عالم صوفي (رواية حول تاريخ الفلسفة) / جوستاين غاردر / دار المنى

لمتابعة قناة حرم الجمال يوتيوب ( أنقر هنا ) 
لمتابعة قناة حرم الجمال تيليجرام ( انقر هنا)
بودكاست حرم الجمال (ساوند كلاود) ( انقر هنا)

بودكاست حرم الجمال (أپل بودكاست) ( انقر هنا)









تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

باهَبَل مكة Multiverse - رجاء عالم

عالم صوفي * .. رحلة تطور الفكر الإنساني (٢)