سماهاني.. بركة ساكن* ... سماهاني** كثيراً




عبدالعزيز بركة ساكن يسرد شيئاً من التاريخ المتخيل لـ (أنغوجا وييمبا) أو ما تعرف اليوم بزنجبار "وأصل الاسم - زانج بارب - أطلقه عليها بحارة من الفرس"،"أخذت تشكلها الألسن والأمزجة والدهور واللغات حتى استقر بها الحال في صوت زنجبار"، ويوضح بركة ساكن أن مصادر هذا السرد اعتمدت على "مذكرات سالمة بنت سعيد، التي عرفت في ألمانيا باسم إيميلي رويته، وهي ابنة أشهر السلاطين الحضرميين الذين حكموا زنجبار ولقد هربت من قصر والدها في عام ١٨٦٧م مع التاجر الألماني هلينريش روته"، أما مصدره الآخر كما يوضح في مقدمة هذه الرواية هو "مذكرات مغامر عماني في أدغال أفريقيا والكتاب عن حياة حمد بن جمعة المرجبي المولود في ١٨٤٠". ذكر هذه المصادر في استهلال الرواية ما هي إلا محاولة لإعطاء شيء من الواقعية لما سيواجهه القاريء على طول السرد، يعقبه تنصل من مسؤولية أي معلومة مغلوطة وذلك بالتأكيد على أن هذا السرد التاريخي لا يُعنى بالتاريخ فيقول "الرواية لا تعنى بالتاريخ إنما بالإنسان".

فمن هو هذا الإنسان الذي عنيت به هذه الرواية؟ 
نوعان من البشر لعبا دور البطل في هذه الرواية، "السيد والعبد". السيد هو السلطان سليمان بن سليم المالك الأوحد، "سلطان كل شيء، الأرض والنباتات، والحيوانات والبحار وما عليها"، أما العبد فهو سندس، والذي أُسر هو وأفراد قبيلته على يد "قوات صائد الرقيق والفيلة، ثعبان بن كليب العماني". تم أسر سندس صغيراً، تم اخصاؤه، ففقد القدرة على الكلام من هول الصدمة والمنظر المؤلم، فجُعل خادماً للأميرة المدللة، فهو ليس بذكر ولا أنثى، ولا يستطيع النطق فهو بذلك أكثر حفظاً للأسرار.

اقرأ في هذه المدونة "الساعة الخامسة والعشرون..وجه حيواني للإنسان" انقر هنا 

تسير أحداث الرواية، تتزوج الأميرة تاجراً ثرياً، ولكنها موقنة بطمعه في السلطة فتقتله بالسحر، تتطور الأحداث، تنشأ علاقة حب بين الأميرة والعبد الخصي (سندس)، يأخذها معه عند قيام هجوم ثوري من قبل الزنوج من قرية مجاورة، تتكالب الأحداث السيئة على السلطان سليمان، يتدخل الأوربيون في شؤونه وشؤون سلطنته، يحاولون انهاء الاتجار بالبشر وحفظ حقوق الانسان، السلطان يقاوم فتخضعه بريطانيا بأقصر حرب في التاريخ وينهون تجارة البشر وتصبح زنجبار محمية بريطانية. 


نجد أن الإنسان الذي تتناوله الرواية هو العربي الغاصب والعبد الإفريقي والتي يصور من خلالهما بركة ساكن الحكم العماني لزنجبار مستعرضاً وحشية العرب، وتاريخهم الدموي، واعتمادهم الكلي في تلك الفترة على تجارة الرقيق لأنهم هم عصب الحياة، فالعربي لا يستطيع أن يستصلح أرضه ولا أن يطبخ طعامه ولا حتى يعرف كيف ينظف نفسه بدون الاعتماد على العبيد الزنوج، فالسلطان طالما تساءل "لا أدري إذا لم يخلق لنا الرب الأسرى كيف يمكننا التطهر".

اقرأ في هذه المدونة "شحاذو المعجزات" انقر هنا


من خلال قراءتي لهذا السرد أجد وبملاحظة شخصية أن كل ما هو عربي، أو ديني يشكل معضلة لبركة ساكن، وكأني أقرأ من خلال سرده أن الدين هو سبب الشرور كلها، وكأنه يخلط بين ذات الدين ومعتنقي الدين، فالمحتلين العرب لزنجبار يمارسون تجارة الرقيق حسب تعاليم (النبي العربي) كما أظهر السرد "تم تدجينهم بصورة تامة، وتم ربط طاعتهم وعبوديتهم بأقوال وأحاديث مقدسة نسبت إلى الرسول العربي"، "فإما أن يكونوا عبيداً طائعين خانعين، وبذلك يدخلون الجنة أو آبقين ثائرين متمردين عاصين ويدخلون الجحيم". وجل ما يتباهى به العربي الغاصب للبلاد هو نشر الدين فها هو السلطان يخاطب العبد مطيع يذكره باصطياد (ثعبان العماني) له -واصطياد هنا تظهر نظرة العربي للزنجي- فيقول "أنقذك من حياة التوحش وأكل لحوم البشر والديدان والخنازير البرية إلى نور المدينة، وأكرمك بدخول الإسلام" وهذا ما شدني إلي رمزية اختيار اسم السلطان سليمان بن سليم، إشارة إلى السلطان سليمان بن سليم الأول (سليمان القانوني) إذ كان أكثر سلاطين الدولة العثمانية توسعاً!.
وعندما أصبحت زنجبار محمية بريطانية وبدأ فيها التبشير بالمسيحية كانت أكثر رقياً وحضارة فكان التبشير بالترغيب و"تقديم الطعام والكساء والمأوى" فهذه عادة الأديان حب التوسع بأي طريقة كانت ولكن لكل أصحاب رسالة طريقتهم التي تعبر عن ثقافتهم في إيصال الرسالة. وفي الأخير "لم تؤثر تعاليم الكنيسة كثيراً في سلوك الكثيرين منهم، كلما قل الدعم جاعوا وفقدوا إيمانهم بوصايا النبي موسى؛ فسرقوا وقتلوا وزنوا وكذبوا ولم يردعهم سوى القانون المستنسخ من القانون الهندي". فلا الدين المسيحي ولا الإسلامي آتيا أُكلهما في اصلاح الفرد أو المجتمع. ولا أعلم هل تعاليم الكنيسة تسيرها ابتداءً وصايا النبي موسى أم عيسى عليهما السلام؟

اقرأ في هذه المدونة "ظل الريح..كارلوس زافون" انقر هنا

في المقابل لنأخذ نظرة عن مجتمع الزنوج والذي قاوم اغتصاب العدو العربي المتوحش ابتداءً ثم العدو الحنون الأوربي بعد ذلك. مجتمع تمثل من خلال السرد في حوارات المجلس الاستشاري لقرية الثوار الذين أتوا بعد حملتهم الخاطفة على السلطنة ومعهم سندس مصطحباً الأميرة اذ يقول أحد شيوخهم "لم أعرف طوال حياتي التي تمتد قرابة الثمانين فصلاً مطيراً أن رجلاً كريماً نبيلاً من قومنا قد أخذ امرأة من أسرتها عنوة وهرب بها أينما شاء وكيفما شاء دون زواج، ودفع المهر المستحق لأسرتها". "هذه أخلاق النخاسة الذين أتى بهم المحيط من اليابسة البعيدة، يابسة الجن.. يستخدمهم خالقهم الشيطان في محاربة الأرباب الأفارقة الحقيقيين.. أبنائي ماذا دهاكم، هل تلبستكم روح الجن الذي أتى به أبناء الشيطان؟"
 هكذا هي أخلاق الزنوج، وهكذا تكون أهمية الزواج عندهم كوثنيين، الزواج الذي وصفه السلطان سليمان بن سليم على أنه "زنا مبارك" !

أما عن حياتهم الحرة فقد أقحم فيها العرب ما لا يعرفوه فيها، أتى العرب إليهم بـ "الكي بالنار، أو الضرب بالسوط، أو السجن الانفرادي والحرمان من الأكل والشرب وغيرها من أدوات التعذيب التي يكرهها الزنجي لأنها غريبة عن طبيعته وحياته بل لا يستطيع أن يتخيلها مجرد تخيل وهو في قريته الدغلية"

هل هم فقط العرب من سبى نساء الزنوج وأسر رجالهم؟ ألم تتحارب القبائل الإفريقية فيما بينها؟ ألم ينكلوا ويمثلوا ببعضهم؟ ألم يستعبدهم الأوربي؟ ألم يجعلهم في يوم من الأيام وليمة للكلاب، وتسلية لأطفالهم حتى وقت قريب؟ أم أنه العربي الممتثل بما جاء به النبي العربي هو من فعل ذلك؟ هذه الأسئلة راودتني كحصيلة عدة قراءات لأدب بركة ساكن وليست نتاج هذا النص وحسب. 

اقرأ في هذه المدونة "الصبية والسيجارة" انقر هنا

في خضم ما رأيت من خلال هذا السرد الذي "يعنى بالإنسان لا بالتاريخ" تذكرت ما كتبه بركة ساكن في روايته (مانفستو الديك النوبي) "الحقيقة عند الروائي هي خليط من الخيال والطفولة، وهو ميال لأن يبقى طفلاً طوال الوقت". هل هذا الميل هو ما جعل النص يسقط في شرك المتناقضات، -أقلها من وجهة نظري كقاريء-؟ هل هذا سبب لتكون حبكة السرد متفككة في عدة مواضع؟ أم أن ثورة ذكرى العربي المتوحش هي السبب؟ من بعض ملاحظاتي التي وضعت عندها علامة تعجب أو علامة استفهام هي كالآتي: 
-      "الجميع يعرف أن أصول السلطان سليمان بن سليم من الحبشة"، "لا يستطيع قراءة العربية، بل لا يمكنه التحدث بها". الآن هل السلطان سليمان بن سليم عربي أم حبشي استناداً إلى الأصول وبغض النظر عن اللغة التي يستخدمها؟ 
-      سندس فقد القدرة عن الكلام منذ أن كان طفلاً أسيراً ولحظة مخاطبة الثوار له في نفس اللحظة خرج وعاد للأميرة يتحدث بطلاقة وبمعجزة وبدون أي مقدمات! 
-      أما عن الجنس، وحتى لا يغادر الحديث عنه أي صفحة من السرد، نجد أن سندس الخصي أحب الأميرة والتي تم ختانها منذ طفولتها للحفاظ على عفتها بل ومارسا الجنس بشهوة عجائبية!!
-      وأيضاً تكريساً لكل ما هو جنسي حتى في المواضع التي لا تمت للجنس بصلة، نجد أن الأميرة (المختونة) عندما رأت المجوهرات التي عرضها عليها التاجر الهندي "تأملته بشهية ظاهرة، بنهم حقيقي، وفار الدم في عروقها، تصاعدت دقات قلبها وهي تقاوم خيطاً من السائل الناعم يجري بين فخذيها دافئاً لطيفاً"!! 
-      تكرار غير مبرر لمشاهد السلطان وجواريه في عدة مواضع، وتصوير ممارسته للجنس مع تسع وتسعين من نسائه، وقد تثير رمزية هذا الرقم أيضاً شيئا نحو الأديان، الإسلام، المسيحية، واليهودية فجميعها لها من رمزية هذا الرقم حظ ونصيب.
-      ظهور لوطي انجليزي، عشيقاً للسلطان خلال الأحداث فجأة كان يعمل كجاسوس وكمهدئ لفحولة السلطان، لم يكن له أي دور في السرد سوى وصف اللوطي! 

اقرأ في هذه المدونة "طائر الليل البذيء" انقر هنا

في كل مرة أنتهي فيها من متعة نص عالمي مترجم، ومن بعد حوار فكري وروحي مع نص يحمل هم الإنسان (كإنسان)  وأتجه لنص عربي من مبدأ يجب أن يكون بيننا من يكتب من اجل الإبداع ذاته، بدون تحيزات لا تخدم إلا فكرة كاتبها، إلا أنني اصطدم بنص يحطم كل آمالي في رؤية النص العربي مرتكزاً على غير الجنس، بالرغم من إيماني بأن الرواية تصور الحياة والحياة لا تخلو من الجنس أو القسوة أو كل ما هو مقزز، إلا أن كل هذه العوامل أحب أن أراها داخل السرد لهدف غير هدف (الجمهورعاوز كدا)، هدف يخدم النص، هدف يصالحني مع مشاعر لا أملك القدرة على البوح بها، هدف يجعلني ألتمس عمق روح للإنسان، هدف يبني بيني وبين الشخوص إما علاقة كره أو حب. وأجد نفسي أحياناً أخرى مصطدماً بنص سطحي لا يعتمد إلا على السجع واللغة الشعرية وكأن الرواية مجرد شعر حر! إلى متى؟ 

شكراً بركة ساكن على هذه الومضة التي عرفت من خلالها عن زنجبار ودفعتني لأقرأ عنها وعن تاريخها من خلال مراجع تعنى بالتاريخ لا بالإنسان، وفي نفس الوقت (سماهاني) بركة ساكن لم أكتب هنا إلا حقيقة ما أثاره هذا النص ناحيتي كقاريء، قاريء يعلم جيداً ملكات بركة ساكن السردية...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*سماهاني / بركة ساكن / دار مسكيلياني / الطبعة الأولى ٢٠١٧م
** سماهاني : تعني (سامحني) بالسواحلية. 




لمتابعة قناة حرم الجمال (يوتيوب) انقر هنا 
لمتابعة قناة حرم الجمال (تيليجرام) انقر هنا 
بودكاست حرم الجمال (ساوند كلاود) ( انقر هنا)

بودكاست حرم الجمال (أپل بودكاست) ( انقر هنا)


تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

تاريخ المكتبات (١).. مكتبة إيبلا هي الأولى

الحب .. موت صغير