الساعة الخامسة والعشرون..وجه حيواني للإنسان
أحدق في الصفحة البيضاء وقلمي بين أصابعي مصاب بالجمود، فلبياض الصفحات رهبة، ولما أريد أن أكتب عنه تأثير روحي يشتتني، فلطالما اهتممت بالإنسان والإنسانية أحاول أن ألتمس أسباب ارتقائها ودواعي إنحطاطها فكان رواية "الساعة الخامسة والعشرون" للمؤلف الروماني قسطنطين جيورجيو أثرها لأنها عرّت الوجه الحيواني للروح الإنسانية (فقد رسمت خارطة تفصيلية للمأساة البشرية في ظل الأيديولوجيات الشمولية، والحروب العبثية، والكراهيات العرقية, والتحيزات الدينية) وكل ذلك في ظل دعوى الحضارة المقيتة وتحول الإنسان إلى عبد آلي في ظل التقنية حتى أصبح يحاكي الآلة في اتباع كل ما يطلق عليه نظام أو قانون بدون أي وعي إنساني ،أو ضمير حي، وماكان لهذه المحاكاة إلا أن تكون أداة لقتل الإنسانية، وماكان هذا التوق والشغف للوصول إلى الكمال إلا تجرد من أصل الإنسان. تجلت هاهنا ملامح احتقار الكائن البشري كفرد فكانت هذه الحقبة التي تعكس الرواية زمانها خلال الحرب العالمية الثانية هي إحدى أكثر الأزمنة سوداوية في تاريخ البشرية.
ابتدأت الرواية بتوثيق طبيعة المكان والمجتمع قبل هذا التحول واصفة قرية فانتانا برومانيا (تلك القرية ببيوتها الصغيرة وأبراج النواقيس الثلاثة الشامخة فوق كنائسها الثلاث: الأرثوذكسية والكاثولكية والبروتستانتية) وهنا يظهر التعدد الديني المذهبي الذي لم يصب القرية أو أهلها بالكراهية والتصدع ولكن كان للروائي والشاعر (تريان كوروغا) والذي يمثل نواة البناء السردي للرواية وأيقونة الرجل المثقف حيث يتجلى من خلاله دور الإنسان المثقف في المجتمع من خلال محاولة التغيير، توعية واقناع المجتمع بالكلمة، متسلحاً بالقلم، فيقول: (أليس الشاعر نبياً)، (ينبغي أن أصرخ، وأن أحمّل الأصداء قولي، حتى ولو كان قولا ممجوجاً)، فقرر كتابة رواية يجسد فيها رؤيته وتنبؤاته التي يشعر بها في حال طغت الآلة وأصبح الإنسان عبداً لها حيث أن (المجتمع التقني يستطيع ابتداع رفاهية، لكنه لا يستطيع خلق الفكر. ومن دون الفكر لا توجد العبقرية. ومجتمع محروم من رجال عباقرة مجتمع محكوم عليه بالفناء) فهو مؤمن ومتيقن بأنه يوماً ما (سنتخلى عن صفاتنا الإنسانية وقوانيننا الخاصة تدريجياً)، وأبطال هذه الرواية هو ومن حوله من الأهل والأصدقاء ويكون ذلك بتوثيق حياته وحياتهم في ظل هذه التنبؤات التي كان مؤمناً وموقناً بحدوثها لأن (الأحداث المأساوية ستقع أولاً على مسرح الحياة).
كان الشاب (ايوهان موريتز) هو أول من بدأت به هذه الأحداث، ذلك الشاب الريفي الوادع والذي يمثل في هذه الرواية أيقونة يتجلى من خلالها أولئك البشر الذين تغلب عليهم الطيبة وحسن النوايا لحد السذاجة، ولكن هذا الإنسان المسالم لا يكفيه ذلك في مجتمع يحتقر الفرد ويعاقبه استناداً على أحكام آلية مسبقة، فكان من سوء حظه أن يكون اسمه اسم يتسمى به اليهود فأصابته لعنة هذا الإسم الذي لم يختره لنفسه، فطُلق من زوجته بذريعة (أسباب تتعلق بالنظام القومي) وتنقل بين المعتقلات سنوات أخذنا قسطنطين جيورجيو من خلالها في رحلة سردية مؤلمة لما عاناه الجنس البشري في ذلك الزمان، فقد كان البشر يُصادرون استناداً على إنتمائهم كما تصادر العربات والأبقار والمحاريث وسيارات النقل. هرب إيوهان من معتقل اليهود برفقة بعض اليهود برومانيا إلى هنغاريا حيث لم تكن هناك قوانين ضد اليهود آنذاك آملاً فيما كان سبب عذابه في رومانيا أن يكون سبب نجاته في هنغاريا حيث أنه قد يستطيع الهجرة إلى أميركا ولكن ظهر انعدام الحس الإنساني من جديد حيث أن الفرد لا يعامل كإنسان وإنما كشيء، فقد رفض اليهود مساعدته وتسهيل هجرته تلك لأنه ليس يهودياً، فقط لهذا السبب. وهنا يبقى الإنسان تحت وطأة العبودية التي فرضتها القوانين الشمولية العنصرية، فمكث في هنغاريا حتى قبض عليه بتهمة التجسس فذاق صنوف العذاب حتى بيع إلى ألمانيا في صفقة للأيدي العاملة. هكذا كان الإنسان يباع ويشترى كسلعة، فلقي هناك ما لقيه في سابقاتها من تجارب إلى أن صُنّف من قبل المؤسسة القومية للدراسات العنصرية ضمن (الفصيلة البطولية) والتي تعطي المثل الأعلى للبطولة العنصرية. فأصبح جنديا في ألمانيا وهنا يظهر لنا كيف سُلبت منه حياته وكرامته وكيف أعيدت له في لحظة فأصبحت حياته متلاطمة بين موجات العنصر والجماعة والإنتماء بدون أي اعتبار لكونه انساناً يحمل ذاتاً منفردة يستحق عليها الإحترام فعادة ما تكون أغلال العبودية أقوى من البشر.
أما زوجة تريان كوروغا السيدة أليونورا وست فقد كانت الأيقونة الممثلة للإنسان القوي الذي يصارع من أجل البقاء، متخذا أسباب النجاة بكل طريقة، وهي من أصول يهودية وقد دفعت الكثير لإخفاء هذا النسب وتزوجت بالمسيحي تريان كوروغا لهذا الغرض فنجت حتى حين، ولم يجدها نفعا كل ما بذلته لشراء الحرية والأمان، فيصف تريان رحلة اعتقالاته هو وزوجته، (لقد سجنا حسب القوانين الدبلوماسية في فندق مع ممثلي الدول العدوة الأخرى ثم احتل أنصار تيتو* بلاد الكروات فنقلنا إلى النمسا ثم إلى ألبانيا ومنها إلى تشيكوسلوفاكيا). أما ما بعد الحلفاء ودخولهم اعتقل تريان وزوجته من قبلهم بعد أن سعوا إليهم فارين، يحثان الخطى خلف سراب الأمل، لكن رومانيا مصنفة كبلد عدو للحلفاء وبذلك نالتهما لعنة الانتماء لهذا البلد العدو للحلفاء، (هذا هو الغرب. إنهم لا يأبهون بالوقائع ولا بالإنسان، لقد عمموا كل شيء فهم لا ينحنون إلا أمام النظام).
هكذا نجد ان كل سجين، كل انسان معذب في ذلك الزمان لسان حاله يقول (لماذا تحتفظون بي سجينا؟ فأنا لم أسرق، ولم أقتل، ولم أخدع إنساناً قط... وإذا كنت لم أجرم ولم أسرق، ولم أسئ إلى أحد فلم تبقونني سجيناً؟) العذاب الحق عندما لا يعرف الإنسان لماذا يُعاقب وهذا العذاب أكثر إيلاما وشدة من العبودية. ولكن الجواب كان أن (البلدان المتمدنة لا تعنى بالحالات الشخصية فكأن تكون مجرما أو بريئاً، مسألة شخصية يمكن أن تهتم بها زوجتك أو أن يعلق عليها جيرانك ... أما الدول الراقية فإنها تنظر نظرة شمولية). فلك أن تتخيل أن الأرض والدول كلها آنذاك كسجن كبير، أتعلم لماذا؟ لأنهم يقومون على حسب تعبيرهم (بتوقيفات وقائية حسب الأصناف والطبقات) معللين هذه التوقيفات الوقائية بقولهم (فإذا احتجنا إلى المذنب أو إلى مجرم حرب مثلا فإنه يكون تحت يدنا. بدلاً من البحث عنه في كل مكان وملاحقته). ما هذا الجنون، والهوس فالكل سجين بدعوى الوقاية؟ ( لقد أصبح البشر أقلية موثوقة الأيدي مغلولة العنق، و أصبح الإنسان عاجزاً عن مد يد العون إلى أترابه) وقد نلحظ هنا الفجوة الكبيرة التي تعكس عمقها هذه الجملة في ما بين الإنسان (المسجون) والسجان (العبد الآلي) عبد النظام والقوانين العنصرية، نلحظ صراعاً بين فئتين لا تتشابهان سوى في اللحم والدم.
فكل أطياف المجتمع المُمَثلين بشخوص هذه الرواية من الإنسان البسيط، إلى المثقفين، رجال الدين، وأولئك الأشداء المتمسكون بالحياة جميعهم بلا استثناء خسروا كل معنى للوجود، خسروا حياتهم تحت وطأة الظلم والإستعباد (هناك بعض الميتات التي لا تخلف وراءها جثثاً)، ) فلمثل من شاهد وعايش (الألمان يحرقون جثث المساجين في معسكرات الإعتقال، لكنهم بمجرد أن يغلقوا باب الأتون المعد لإحراق الجثث حتى يمضي كل منهم لتناول طعامه)، ولمن عاين (رجال صنعوا فرشا من شعر النساء المقتولات في معسكرات الإعتقال) أو تابع (في السجن امرأة كانت تستعمل في غرفة نومها ومخدعها الخاص سجفا مصنوعة من الجلد الآدمي)، أو شهد (استحياء الروس نساء في الثمانين من أعمارهن ... تناوبوا على مضاجعتهن بمعدل عشرة رجال لكل امرأة) يصبح اقصى مسافات الحلم والأمل لهؤلاء بعد معايشة هذه التجارب هو اختيار وتفضيل سجن عن الآخر فقط. وإن كان هذا الحلم ولذة بلوغه بعيدة المنال، لكنه يستحق الحياة والصراع لأجله من أولئك المعذبين لأن التوق إلى الحرية في ذلك الزمان ضرب من الجنون، وهذا هو الرمز لفقدان الكائن البشري للوجود وعندها بالضبط ستكون الساعة الخامسة والعشرون ساعة العالم الغربي وهي (اللحظة التي تكون فيها كل محاولة للإنقاذ عديمة الجدوى) قد حلت. وقد تصبح في زماننا هذا ساعة العالم العربي فيبدو أن التاريخ لا يتخلى عن فطرة أن يعيد نفسه فهناك تطابق ملفت في تلك الأنظمة العنصرية الشمولية في ذلك الزمان وزماننا، هناك تطابق في الأسباب التي يُقتل من أجلها الإنسان والأسلوب أيضاً، فكل الطغاة يتناسخون الصفات ذاتها وكأنهم قد تواصوا بها أو كما عبر "اميل سيوران" عن هذا التناسخ اللانهائي بقوله (حين يُشْبِع الطغاة شراستهم يتحوّلون إلى رجال طيّبين. وكان يمكن أن تعود الأمور إلى نصابها لولا غيرةُ العبيد، ورغبتهم في إشباع شراستهم هم أيضاً. إن طموح الخروف إلى أن يتقمّص دور الذئب هو باعث أغلب الأحداث. كلّ من ليس له نابٌ يحلم به. ويريد أن يفترس هو أيضاً).
(الساعة الخامسة والعشرون عن دار مسكيلياني، تأليف: قسطنطين جيورجيو، ترجمة: فائز كم نقش).
• جوزيف بروز تيتو (1892-1980): ثوري عسكري ورجل دولة يوغسلافي من أصل كرواتي.
تعليقات
إرسال تعليق