الصبية والسيجارة .. الحرية تحتاج إلى التخلص من الحرية!



بونوا ديتيرتر يقدم لنا من خلال روايته "الصبية والسيجارة" ديستوبيا ساخرة تعري القوانين والأنظمة التي صنعتها المجتمعات المتحضرة والتي من خلالها تدعي مراعاة الصالح العام وفي الحقيقة يختفي خلفها الكثير من التناقضات. فكانت محور هذه الرواية سيجارة، مجرد سيجارة ساهمت في حفظ حياة ديزيري جونسون وحولته من قاتل ينتظر حكم الإعدام إلى بطل قومي، وهذه السيجارة ذاتها حولت حياة الراوي، الموظف المرموق إلى جحيم.

ديزيري جونسون طلب من هيئة تنفيذ حكم الإعدام أن يستمتع بسيجارة أخيرة قبل تنفيذ الحكم، فحسب القوانين والأنظمة وتحديداً الفصل السابع والأربعين من قانون العقوبات "بإمكان المحكوم عليه بالإعدام، أن يحقق قبل تنفيذ العقوبة رغبة أخيرة منسجمة مع الأعراف المتبعة ... من قبيل شرب كأس من الكحول أو تدخين سيجارة" وفي نفس الوقت كان مبنى السجن يُمنع فيه التدخين منعاً باتاً. تضاربت القوانين وتأجل حكم الإعدام إلى حال النظر في حل مناسب. اتضحت هنا هشاشة هذه الأنظمة "لأن الدفاع عن صحة شخص محكوم عليه بالموت قد تبعث على الحيرة".  توالت النقاشات والأحداث حتى تدخلت شركات التبغ لاقتناص فرصة اظهار السيجارة هنا بصورة الحياة بدلاً من صورة الموت التي يُروج لها دوماً. أصبحت القضية قضية رأي عام تحول من خلالها ديزيري جونسون لبطل قومي نال عفو رئيس الجمهورية.

اقرأ في هذه المدونة "المسيح يصلب من جديد" انقر هنا

ومن جهة أخرى وعندما أراد الراوي أن يمارس حقه الشخصي في التدخين وبالرغم أنه انزوى بنفسه في دورة مياه كمن يقوم بعمل فاضح، إلا أن تدخينه لهذه السيجارة في مبنى الحي المركزي وبوجود الأطفال فقد تسببت له هذه السيجارة وبدراماتيكية ساخرة إلى تدهور حالته من موظف مرموق ورجل ثقافة، إلى مجرم يهدد الحياة من جهة بتلك السيجارة ويهدد الطفولة أيضاً لأن حظه العاثر ساق له طفلة صغيرة تشهد جريمة تدخين السيجارة، فوبّخها، فانتقاماً منه روجت أنه تحرش بها. فأضاف بذلك إلى نفسه أيضاً تهمة معاداة الطفولة والشذوذ إلى تهمة تهديد الحياة ونشر التلوث البيئي.  

كان هذا المدخل للرواية هو بداية تعرية مثل هذه القوانين العامة فمنع التدخين في جميع المرافق وتضييق الخناق على المدخنين ألا يناقض الحرية الشخصية التي تكفلها المجتمعات المتحضرة للفرد؟ أليست هذه السيجارة ذاتها هي سبب الحياة من جهة وسبب الموت من جهة أخرى، فهذا لا يدل إلا على أن هذه القوانين هي عرضة للتأثر بالرأي العام مما يزيد من هشاشتها ويفضح ظلمها المتستر بالعدل.

اقرأ في هذه المدونة "يوم النمل .. ماذا لو" انقر هنا 

أليست تلك القوانين الصارمة من أجل حفظ حقوق الطفل قد تتجه لإتجاه عكسي قد تجعل من الأطفال عرضة للانفلات، ولعدم احترام الكبير أو التطاول عليه؟ أليست دافعاً لممارسة سلوك "الكذب الانتقامي" منهم وبكل أريحية واعتزاز؟ ومن الجدير بالذكر هنا أن هذا السلوك ناقشه المخرج الدانمركي توماس ڤيتنبرغ في فلمه الرائع والجدير بالمشاهدة ( The Hunt). انقر هنا

أليست هذه القوانين الصارمة وفرض هذا الانضباط والهوس به جعل حياة الفرد أكثر تعقيداً وهدد خصوصيته بحجة الصالح العام؟ ألم تجعل الفضاء العام زنزانة من نوع آخر؟ فهذه القوانين أصبحت لعبة في يد السياسي يصنع منها بروباغندا للفوز بمنصب أو انتخاب فليس له سوى أكاذيب حماية البيئة، حماية الطفل، حقوق المرأة، وحقوق العمال وفي الحقيقة أن المصطلح -المطاطي والمبهم- (الصالح العام)، ما هو إلا اضرار بمصلحة الفرد وحد من حريته الشخصية.

بين هاذين الموقفين، وبين هاتين السيجارتين دارت الكثير من الأحداث، والتي أظهرت ضعف وهشاشة الرأي العام والذي تسيره حملة إعلانية هنا أو صرخة من هناك، ففي لحظات يصبح الخير شراً، الصديق عدواً والحياة موتاً.

اقرأ في هذه المدونة "مارواه المغربي .. رحلة الآمال والأهوال" انقر هنا

فالمرء يمارس حرية زائفة وما هو في الحقيقة إلا دمية تحركها القوانين المنضبطة فتجعله يعيش في وهم الشعارات الإنسانية الخادع، وهذا ما أظهرته الأحداث الأخيرة من الرواية عندما دخل أبناء هذا المجتمع الذي جعل من ديزيري بطلاً قوميا في لعبة (أكاديمية الشهداء) - وهو برنامج قام به ارهابيو الشرق الأوسط فجعلوا حكم اعدام أسراهم (الغربيين) في يد المصوتين - فمن يحصل على أصوات أكثر ينجو حتى حين. هذه اللعبة التي انخرط فيها أبناء المجتمع المتحضر تحت شعار حفظ الحياة والإنسان، يمارسون من خلالها وبدون وعي منهم قتلاً مباشراً، فهم يصوتون للموت أيضاً! فالصوت الذي ينجو به أحد يُحكم به بالموت على آخر. مجتمع يعيش تناقضات جمة وبدون أي شعور بذلك، غيبت عقله وكينونته الشعارات البراقة والمصطلحات الزائفة والعواطف التي لا يتحكّم بها سوى لوبيات الإعلام والإعلان. فالحرية في مجتمع كهذا تحتاج إلى التخلص من الحرية.
-------------------------------
الصبية والسيجارة/بونوا ديتيرتر/ ترجمة: زهير بوحولي/ مراجعة:رمزي بن رحومة. دار مسكيلياني


لمتابعة قناة حرم الجمال (يوتيوب) انقر هنا 
لمتابعة قناة حرم الجمال (تيليجرام) انقر هنا 
بودكاست حرم الجمال (ساوند كلاود) ( انقر هنا)

بودكاست حرم الجمال (أپل بودكاست) ( انقر هنا)




تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

توأم الروح

من حياة الأدباء | ٠١| أونوريه دي بلزاك