ظل الريح.. كارلوس زافون
ظل
الريح، والصادرة عن دار ميسكيلياني والتي أتحفت القاريء العربي باكتشاف هذا
الروائي الحكاء والممتع كارلوس زافون والذي سيجذب من خلال روايته ظل الريح أكثر
القرّاء مللاً ليحبس أنفاسهم من خلال هذه الرواية التي شُبهت شخوصها بلوحات الرسام
بيتر بروغل، فشخصيات بروغل في لوحاته كثيرة ولكل منها دور مستقل فليس في اللوحة
شخصية تطغى على الأخرى، وهكذا كانت شخوص رواية ظل الريح تبرز بصورة مشوقة، لا تشعر
بوجود شخوص هامشية، فلكل شخصية دور تكتمل به هذه الأحجية من خلال السرد الذي
يكتنفه الغموض والتشويق، وكدمية الماتريوشكا، قصة بوليسية بداخلها قصة رومانسية
بداخلها قصة فلسفية إنسانية، قصة بداخل قصة.
تبدأ
الرواية عندما اصطحب سيمبيري بائع الكتب ابنه دانيال إلى مقبرة الكتب المنسية
ليتعرف على هذا المكان الذي يعد مخبأ لكل كتاب نادر فهذه المقبرة كما صرح سيمبيري
لإبنه دانيال أنها "معبد، حرم خفي. كل كتاب مجلد هنا تعيش فيه روح ما"، نلمح
من بداية هذه الرواية ثيمة النسيان والذكريات، من اسم أول فصول هذه الرواية "مقبرة
الكتب المنسية" وأول جملة في السرد نطق بها الطفل دانيال "لن أنسى أبداً
ذلك الصباح الذي اقتادني فيه والدي إلى مقبرة الكتب المنسية".
في
زيارته الأولى اختار دانيال كتابه الأول من هذه المكتبة وقد كانت رواية لكاتب
مغمور هو خوليان كاراكس بعنوان "ظل الريح"، سكنت تلك الرواية هذا الطفل
الذي قرأها بكل شغف وبكل فضول دفعه للبحث عن قصة صاحب هذه الرواية وهكذا هي قراءاتنا
الأولى دوماً لأنه "لا شيء قادر على التأثير في القاريء أكثر من الكتاب الأول
الذي يمس قلبه حقاً. إذ أن صدى الكلمات التي نظن بأننا نسيناها يرافقنا طوال
الحياة، ويشيد في ذاكرتنا منزلاً سنعود إليه عاجلاً أم آجلاً"، وحينها بدأت
تتعقد الأحداث في سبيل معرفة هذا الشخص حتى صادف دانيال (لايين كوبرت) والذي أخذ على
نفسه عهد بإحراق كل كتب خوليان كاراكس وملاحقة كل من يمتلك أي كتاب له. وفي ظل
سلسلة من الأحداث المشوقة والتي يظهر فيها الكثير من الشخصيات والتي يغوصk ويبدع
كارلوس زافون في إظهار تركيبتها النفسية، وبعد الكثير المفاجآت يتضح أن لايين كوبرت
هو نفسه خوليان كاراكس والذي أخذ على نفسه عهداً بحرق كل ما يتعلق بماضيه لأنه آمن
بأن سبب تعاسة حاضره ومستقبله هو ماضيه. وهنا يتضح الدرس الأكبر من هذه الرواية،
فتعلق الإنسان بالماضي ومحاولة الحكم على حاضره ومستقبله بميزان ماضيه ما هو إلا
قنبلة موقوتة يدمرالإنسان روحه بها. وفي نفس الوقت تعقدت حياة الطفل دانيال حتى
كبر وهو مازال يبحث عن حقيقة كاراكس وهنا يتضح أيضاً أن البحث في الماضي والأمور
الخفية لا يزيد الأمور إلا تعقيداً.
تدور
أحداث الرواية من منتصف أربعينيات القرن المنصرم مع نهاية الحرب الأهلية الإسبانية
وما جرى خلالها حينما "غادرت الرحمة قلوب الجميع"، صورت الرواية الظروف
الحياتية خلال حكم الجنرال فرانكو والذي لا يختلف عن وضع أي حكم ديكتاتوري من هذا
النوع، لا يخلو من الفساد، والجريمة، الرشوة، والظلم. في مثل هذه الظروف لا يتورع
الإنسان في أن يتحول إلى وحش قاتل، فنجد من يبني أمجاده على أنقاض فرائسه. صورت
أحوال الناس وتباينهم في نسيان الحروب والانفتاح على المستقبل أو التعلق بمآسي تلك
الحروب والعيش على أطلالها حيث من المفترض أنه لا شيء "يشجع على النسيان كما
تفعل الحرب" فيقول سيمبيري لابنه دانيال " في الحروب تحدث أشياء فظيعة للغاية
يصعب شرحها يا دانيال، من الأفضل أحيانا ألّا نحفر في الماضي " وها هنا يؤكد مرة
أخرى على ضرورة إلقاء مآسي الماضي خلفنا والبدء من جديد إذا ابتغينا الحياة. في
مثل هذه الظروف تندثر ثروات وتتفكك عوائل وتبنى غيرها وستختلف الظروف حتماً ولكن
لا يجب أن يكون كل ذلك عائقاً عن الحياة، الحياة لا تستمر ولا تسير إلا بالنظر
قدماً، بالتفاؤل والحب وهذا ما سيتم كشفه من خلال هذه الرواية.
لا
أريد أن أكشف الكثير من التفاصيل حتى أترك لكم لذة الدهشة، ولكن ستجد عزيزي القاريء أن سرد الرواية متنوع ومتسارع يحمل الكثير من الرمزيات والنكات والفكاهة تارة والجمل الفلسفية العميقة
تارة أخرى، مما يبرز صعوبة ترجمة هذه الرواية المتسارعة الغامضة ولذلك نشكر
المترجم معاوية عبدالمجيد على هذا المجهود الكبير في نقل هذه الرواية إلى العربية ولتوضيحه
لبعض هذه الرمزيات بدون التأثير على حيوية السرد وتسارعه.
لمتابعة قناة حرم الجمال:
التيليجرام : انقر هنا
اليوتيوب : انقر هنا
تعليقات
إرسال تعليق