شحاذو المعجزات
من بعد قراءتي للرواية الشهيرة الساعة الخامسة والعشرون لقسطنطين جيورجيو
ها أنا أقرأ الرواية الثانية له من إصدار دار ميسكيلياني وترجمة وحيدة بن حمادو،
الطبعة الأولى ٢٠١٧م، رواية (شحاذو المعجزات) والتي يكمل من خلالها قسطنطين جيورجيو
مشواره في تعرية الوجه الآخر، الوجه اللاإنساني للحضارة الغربية بوجه عام والحضارة
الأوربية بوجه خاص، فبطلي هذه الرواية (ماكس أومبيلينيت) و (ستانيسلاس كريتزا) هما
رجلان أحدهما أسود والآخر أبيض، جسّد من خلالهما العنصرية المتسترة بستار الحضارة وقوانين
المساواة.
ماكس أومبيلينيت، أمريكي أسود مليونير، وكأن قسطنطين جورجيو أراد هنا أن
يصور أفريقيا القارة السوداء الغنية بثرواتها من خلاله. فكيف تعاملت أمريكا مع
مواطنها الأسود؟ سلبته حياته وكرامته بأبشع الصور وأقذرها وتحت حماية القانون! بعد
أن تم اختطافه من قبل البيض وتم التمثيل به والقضاء على رجولته، نجى أولائك
المجرمون بفعلتهم بحكم القانون القائم على شهادات الزور لأن القضاة (لا يحققون
العدالة انطلاقاً مما يعرفونه، وإنما بالاستناد إلى الأدلة التي يمتلكونها. الله
وحده هو العليم، فالقضاة الذين ليسوا إلا بشراً لا يعلمون شيئاً. وبالتالي، فإن تقديرهم
للحقيقة يستوجب توفر أدلة).
قرر ماكس أن يغادر أمريكا للأبد بعد أن رحبت به روسيا محاولة اظهار أنها دولة تسعى لتحقيق العدالة والمساواة وإعطاء أصحاب الحقوق
حقوقها ولم يكن ذلك سوى قناع يتم من خلاله استغلال أفريقيا المتمثلة هنا بماكس، وتشويه نزاهة الحضارة
الأمريكية.
في روسيا التقى ماكس وستانيسلاس بعد أن تم اختيار ماكس بعناية لتنفيذ
عملية اغتيال أربعة مبشرين في أفريقيا وبالتحديد في قرية (آكلو لحوم البشر) وهذا
الوصف لهذه القرية ما هو إلا صورة تعكس نظرة الاحتقار التي يُنظر بها إلى هؤلاء. أوكلت
هذه المهمة لماكس لأنه رجل اسود والاغتيالات عمل قذر (لا يوكل إلا لرجل أسود.
فالأبيض لن يقبل القيام بعمل كهذا). لم تكن هذه الجريمة إلا ذريعة يتم من خلالها
إبادة هؤلاء السود من قبل الأوربيين بحجة الانتقام من جهة ولتأليب الرأي العام من
جهة أخرى لقيام ثورة في هذه المناطق تطيل من مدة الاستعمار في هذه المنطقة بحجة
تعليمهم الحضارة، لأنهم يزعمون أن (تحرير الشعوب البدائية لا يمكن أن يتم إلا بعد
ترحيلها نحو الحداثة).
تمت الاغتيالات، تمت عملية البحث عن القاتل وإبادة الشعب بحجة البحث
والتحري، تقوم الثورة، تعلن أوروبا ضرورة محاسبة الجنرال المسؤول عن المجازر التي
تمت خلال عمليات البحث عن قاتل المبشرين، ولا يُتهم بعد كل هذا العرض المسرحي إلا
الشاب الذي رافق ماكس في هذه الرحلة لأفريقيا كسائق، شاب لا يعلم عن كل هذه
التفاصيل ولا عن الجريمة المزمع حدوثها ابتداءً، ولا كيف حدثت لاحقاً، فهذا الشاب هو
شاب عاطفي كانت جريمته الوحيدة أنه لا يتوقع الشر من أحد.
أمريكا تتبجح بالعدل والمساواة وتحطم كل القوانين والأعراف الإنسانية
بقوة القانون، روسيا تفتعل الحروب تخطط لها، وتشعل فتيلها، أوروبا تسلب الشعوب
ثرواتها ومقدراتها بدعوى نشر الحضارة. ومن الضحية بعد كل ذلك؟ سؤال جوابه معروف،
والمعروف لا يُعرّف.
أظهر قسطنطين جيورجيو كثير من التفاصيل والمفارقات في التركيب النفسي ولغة الجسد والتي سنتعرف من خلالها الحالة النفسية والشعورية للقائد، للمجرم، للأداة والضحية، جسد الصورة الذهنية التي كرس لها الغرب من خلال الشخوص فنجده يقول عن ستانيسلاس كريتزا الرجل الأبيض: (منهمكاً في قراءة كتاب، على عكس الرجل الأسود الذي لا يقرأ مطلقاً)، (ماكس أومبيلينيت -الرجل الأسود- لا يتحدث إلا الأمريكية بينما يجيب كريتزا بدقة بنفس اللغة التي يُسأل بها. ويشاع عنه أنه يتحدث كل اللغات المهمة ودزينة من اللهجات على الأقل)، اقليم آكلي لحوم البشر (منطقة متوحشة يسكنها سود عراة)، (ماكس أومبيلينيت يقوم بعمل قذر لأنه أسود، ... أما بالنسبة للرجل الأبيض فالأمر يختلف: فهو عندما يقوم بعمل قذر، فإنه يفعل ذلك بدافع المثالية ولدافع الإيمان به فالأبيض يملك حق الاختيار، ولهذا فهو أبيض).
انتهيت من قراءة هذه الرواية وأنا أقول، كم هو شبيه سيناريو هذه الرواية بالواقع اليوم، نصف قرن مر على
السيناريو الذي خطه قسطنطين جيورجيو في هذه الرواية ومازالت المسرحية مستمرة ...
هل الرواية حقيقيه أم خياليه؟
ردحذف