يوم النمل ... ماذا لو؟


من خلال باب (ماذا لو) هذا السؤال المهم والذي يُخرج الإنسان من جموده الفكري والذي يجعله يُسقط مكان ما اعتاد عليه أشياءً أخرى، سؤال (ماذا لو) يجعل الإنسان ينظر للأمور من زاوية أخرى، ومهما بلغت الصورة التي يكون عليها الجواب من الغرائبية أو الخيال إلا أنها ستؤتي أكلها، ستوسع مدارك الفكر وتخلق طرقاً أخرى لم يكن لها وجود في حال الاستهانة بـ (ماذا لو). لأنه دوماً نحتاج (التفكير على نحو مختلف، إذا فكرنا بالطريقة التي اعتدنا على التفكير بها لن نصل إلى شيء).
ومن هذا المنطلق خلقت رواية (يوم النمل) للروائي الفرنسي برنار فيربير أثرها، فالنمل والبشر، أكثر أجناس الأرض تطوراً، فماذا لو حاولت كل حضارة أن تكون هي سيدة الأرض، ماذا لو حاولت الحضارتان التعايش؟


أوضح لنا برنار فيربير في الجزء الأول الكثير من طبيعة وحياة مجتمع النمل، تقسيماته الداخلية ودور كل عضو في هذا المجتمع، وذلك كما صوره العلماء في قالب أدبي مشوق مزيج من الأدب البوليسي ومن الخيال العلمي الذي يعطي السرد منطقية، وتشويق. من مجتمع قد نتعلم الكثير والكثير منه. النمل؟! نعم. النمل ذلك الكائن الصغير، الحشرة المربكة، والتي نرمز لها دوماً بالنشاط والمثابرة والوحدة، إلا أن مجتمعها يتقارب كثيراً من مجتمع البشر، فهم ألوان وأصناف، بينهم القوي والضعيف، بينهم حروب وتحالفات، مجتمع مثير، جعل خبير الحشرات (إدمون ويلز) بطل الرواية إلى الاهتمام بهذا الكائن ومحاولة فهمه، بل تعدى طموحه إلى اختراع آلة تمكننا نحن البشر من الحوار مع النمل. ماذا لو حصل ذلك؟
بعد سلسلة من الأحداث المثيرة التي يصل بها مجموعة من البشر إلى القبو البعيد والغارق في البعد، في أعماق الأرض تحت مملكة النمل حصل هناك التواصل بين البشر والنمل عندما أرادت ملكة النمل الحوار مع أصحاب الحضارة المجهولة، ولكن بعد تولي الحكم ملكة جديدة بعد موت الأولى بسبب البشر، رفضت الحوار مع هذا الصنف من المخلوقات (البشر)، لشدة بطشهم وقتلهم الكثير من بني جنسها.

أرى في رمزية عمق هذا القبو، البعد الذي قد يبذله أصحاب حضارة للالتقاء بأخرى، فكم هي المسافة بين أوروبا وبين العالم الجديد الذي اكتشفه كولومبوس؟ وماذا حصل عندما التقت الحضارتان؟ هكذا دوماً يكون الحوار هو الشعرة الفاصلة بين حضارة وأخرى، هو الطريقة الأمثل والتي قد تتواصل بها حضارة وأخرى، إنسان وآخر، وعند انعدام ذلك تزداد الفجوة بين الكائنين. الإنسان عدو ما يجهل، جملة دائماً ما نكررها، ولا نشعر بعمقها، البشر يهزؤون بعادات بعضهم، البشر يهزؤون ويسفهون أديان بعضهم لجهلهم بدين الآخر وعاداته، والإنسان لا يتقبل الآخر حتى يتجاوز حاجز الجهل هذا، الجهل والغرور من أهم أسباب بغي حضارة على أخرى، الكل يعد حضارته هي الأصلح والأفضل مع تمام الجهل بالآخر.

اقرأ في هذه المدونة (ما رواه المغربي رحلة الآمال والأهوال) انقر هنا


في هذا الجزء (يوم النمل) يبدأ برنار فيربير بأسلوبه المميز والذكي بتجسيد سيناريو حرب الحضارات هذه. ابتدأت ملكة النمل الجديدة أولاً بمنع أي تواصل مع المجموعة المحتجزة تحت مملكتها من البشر ثم بدأت بتجييش الجيوش النملية للقضاء على البشر على سطح الأرض، فأعلنت أن حضارة البشر هي حضارة النار لذا علينا تدميرهم قبل أن يحرقوا الغابة بأكملها والنار تعدها الحشرات لعنة ومن هذا المنطلق ولوعي النمال بصغر حجمها وضخامة وقوة عدوها المرتقب بدأت بجمع حلفاء في هذه الحرب، متبعة سياسة إيجاد العدو المشترك فهذا يلغي الخلافات القائمة حاليا بين كل الحشرات. لذلك تعد إحدى أنجع وسائل توحيد الشعوب هي خلق العدو المشترك دائماً.

ولكن المجموعة المحتجزة تحت مملكتها وباستخدام جهاز التواصل مع النمل وبعد انقطاع التواصل الذي فرضته ملكة النمل عليهم بدأوا ببث فكرة (الإله) إلى النمل، وأننا نحن البشر آلهتكم ونستطيع أن نفعل ما نشاء بكم، وذلك لترويعهم واستمرار جسر التواصل بينهم، وبمجرد أن وصلت هذه المعلومة لبعض أعضاء هذه المملكة، كانت هي بذرة الانقسام في صفوف النمل المعروف بالوحدة والتضامن والتضحية، فليس في فلسفة النمل مفهوم الأنا وإنما الجميع من أجل الكل. ولكن تحت هذا المفهوم بدأ الانشقاق وبدأ هناك ظهور مجموعة موالية للبشر تقدسهم وتؤمن بهم، وأصبحت النمال المؤمنة بذلك تكرر كثيراً من الجمل المعدة مسبقاً والتي تسمعها من رسائل البشر المحتجزين وبالرغم من جهلهم بمعنى هذه الجمل إلا أنه كلما زادت الكلمات إيهاماً، شغفوا بها ورددوها أكثر. والرسالة هنا واضحة من برنار فيربير في استخدام الدين من أجل السلطة أو السيطرة على حضارة أخرى، خلق شيء، ثم تقديسه، وتغليفه بعبارات يصعب فهمها ويسهل تكرارها وبذلك تبدأ السيطرة على العقول والشعوب.

اقرأ في هذه المدونة (المؤمن الصادق... المتطرف الكامل) انقر هنا

ومن خلال هذا السرد الخيالي والعجائبي ومن خلال رحلة النمل في توحيد بقية الحشرات في هذه الحرب المقدسة وضد العدو المشترك الأوحد ستصل إلى الكثير والكثير من المعلومات العلمية الصادمة عن مخلوقات كثيرة نجهل تماما أساليب عيشها وطرق تنظيم حياتها ووسائل دفاعها عن نفسها أو محاولات تمددها وبناء حضارتها، نحن البشر مزهوون بأنفسنا نعتقد أننا الأذكى ولكن يحاول برنار فيربير من خلال هذه الرواية أن يضع الإنسان في نصابه الحقيقي من بين كل هذه المخلوقات في هذا الكون الفسيح، لأنه لا خطأ أكبر من استخفافنا بالآخر. ومن خلال هذا السرد المشوق ناقش الكثير من الأسئلة الفلسفية، والأفكار السياسية، والدينية. تعمق في حالات الشعور الإنساني والتي تغيب عن هذه المخلوقات، عن القلق الوجودي عن قدرتنا على التفكير في الماضي والمستقبل وما قد تؤدي إليه هذه المَلَكات التي نختص بها نحن البشر. نحن البشر لسنا الأسوأ فعالم النمل أشد ضراوة من عالمنا ولكننا لسنا الأذكى أيضا، فهذه الدويبات بجميع أنواعها لها نظام حياة دقيق جداً وتراتبية ووظائف محددة ودقيقة فسبحان من علمها، سبحان من قادنا إلى معرفة تفاصيل سير حياتها لنتعلم بدورنا أننا لم نخلق عبثاً، وأن لكل شيء في هذا الكون معنى.

ماذا لو رأي النمل الإنسان وحاول فهم طريقة حياته ومعيشته كما نحاول نحن أن نفهم هذه الكائنات بمراقبتها ودراستها ومشاهدة الأفلام الوثائقية عنها؟ هذا مما لم يغب عن ذهن برنار فيربير وبذلك أدخل النص في منعطف فكاهي ساخر تظهر من خلاله مدى التصورات التي قد نبنيها عند رؤية شيء نجهله كيف أننا نحاول أن نضعه ضمن سياق ما نعرف. فكان من ضمن تقرير النملة التي حظيت بمعرفة البشر (الأصابع) ومصطلح الأصابع هو المصطلح المستخدم في الرواية عن البشر لأن النمل لا يعرف من البشر سوى الإصبع الذي يسحقه):

التكاثر: إناث الأصابع لا تستطيع اختيار الجنس، أو الطبقة ولا حتى شكل فرخها، كل ولادة هي مفاجأة.
الرائحة: لدى الأصابع رائحة زيت الكستناء.
الغذاء : أحياناً، تأكل الأصابع ليس بسبب الجوع وإنما بدافع الضجر.
الفكاهة: لدى الأصابع شعور غريب عنا بالمطلق، يدعونه (الفكاهة) أنا عاجزة عن فهم ما الذي يعنيه هذا بالضبط. ومع ذلك يبدو أنه مثير للاهتمام.
العيون: لدى الأصابع عينان متحركان بالمقارنة مع باقي الجمجمة.
السير: تسير الأصابع بتوازن على قائمتين.

 ولكنها عندما عرفت البشر عن قرب وجهت إليهم السؤال الأصعب "لو كنتم في مكاني هل ستقيمون صنفكم إيجابياً؟ هل تحبون أنفسكم إلى الدرجة التي تدفع إلى محبتكم؟ إذا كنتم لا تحبون أنفسكم، كيف يمكننا أن نأمل بأن تقدروا يوماً على محبة كائنات مثلنا تختلف عنكم إلى هذا الحد!
لكم الجواب ....

اقرأ في هذه المدونة (قراءة في رواية حب في خريف مائل) انقر هنا


"
 ترجمت رواية النمل إلى أكثر من خمس وثلاثين لغة، توجت بالجائزة الكبرى لقراء مجلة (Elle)، كما تم إدراجها ضمن صفوف اللغة الفرنسية، والفلسفة وحتى ... الرياضيات. تتعدى أحداثها موضوع النمل، إنها أوديسة حقيقية، كتاب رحلة صوب اكتشاف الذات، يدفعنا للتفكير بمنزلتنا حقاً ... من نحن وماذا نساوي في المطلق.
"
ولمعرفة المزيد وبإختصار عن النمل وماذا استفاد الإنسان منه للآن، تابعوا الفيديو التالي:



لمتابعة قناة حرم الجمال (يوتيوب) انقر هنا 
لمتابعة قناة حرم الجمال (تيليجرام) انقر هنا 
بودكاست حرم الجمال (ساوند كلاود) ( انقر هنا)

بودكاست حرم الجمال (أپل بودكاست) ( انقر هنا)
----------------------------------------------------------------------------------------------
يوم النمل / تأليف: برنار فيربير / ترجمة : أيف كادوري - حازم عبيدو / صادرة عن دار المدى .

تعليقات

إرسال تعليق

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

توأم الروح

من حياة الأدباء | ٠١| أونوريه دي بلزاك