خارطة الطريق نحو الغباء!
لعل هذا العنوان
وإن تبدو عليه ملامح السخرية إلا أن مضمونه هو ما يقوم به الفرد في مجتمعنا اليوم!
لكي تصبح
محبوباً، لكي تقبل عليك الشهرة والحياة والناس، فلا بد أن يكون سعيك في فهم هذه
الخارطة وسلك طرائقها حثيثاً.
هذا ما جسده مارتن باج في روايته (كيف أصبحت غبياً)، الرواية الساخرة المؤلمة والواقعية بامتياز. بطل
هذه الرواية هو أنطوان، الشاب الذكي المبدع المفكر والذي يجيد عدة لغات وحاصل على
عدة شهادات ولكن بالرغم من ذلك يجد نفسه غريباً في المجتمع لا يتقبله الناس، فأدرك
أن سبب هذا الشقاء هو عقله! فأصبح موقناً أن (الذكاء يجعل الإنسان تعيساً
ومنعزلاً)، الذكاء ليس أكثر من مجرد (اخفاق في الارتقاء)، فسعى جاداً إلى التخلص
من هذا الذكاء محاولاً محاكاة المجتمع والانسجام فيه لأن محاولة فهم الحياة وما
يدور فيها ما هو إلا انتحار اجتماعي، وأول فكره راودته هي أن يصبح سكيراً فذلك
(سيكون ترقية اجتماعية) في مسيرته نحو التخلي عن عقله، ثقافته وذكائه ولكن لسوء
حظه ولحساسية ما مصاب بها ضد الخمور أدت إلى إصابته بتسمم كحولي فشلت هذه الفكرة،
فقرر الانتحار وفشل أيضاً، فقرر أخيراً أن يأخذ المسار الأصعب هو أن يصبح غبياً.
تعامل أنطوان مع
الذكاء وكأنه مرض، لأن الذكاء إذا ما وجد المحفزات والتربة الصالحة لنموه سيتفشى
تماماً كالمرض عندما يصيب الجسد، لذلك قرر أن يجنب عقله كل تلك المحفزات وأن يكرس
جل طاقاته لأن يصبح غبياً، وصل بأنطوان اليأس لمرحلة يريد فيها العيش بسلام في هذه الحياة
فقط، وليس العيش لفهم الحياة. فهو يرى أن الحياة (فيها حشد من الأغبياء الجهلاء،
المجبولين من اليقينيات والأحكام المسبقة، حمقى تماماً وهم سعداء).
ابتدأ المسيرة، فمرت
مسيرته لتجفيف منابع الذكاء بثلاث مراحل :
المرحلة الأولى:
استقالته من الجامعة التي كان يعمل فيها. وهذا تعبير عن البحث عن الفراغ وهو أهم
محفزات المرحلة المقدم عليها.
المرحلة
الثانية: (تخلص من كل ما قد يجازف بتنشيط عقله)، الكتب، الروايات، الأعمال
الفكرية، القواميس، الموسوعات، الموسيقى والمجلات العلمية والفكرية.. الخ.
المرحلة
الثالثة: وهي الأهم. جلب تلفازاً، علق على جدران غرفته صور سيارات وممثلين وممثلات
استبدل الموسيقى الكلاسيكية بموسيقى معاصرة (قائمة على ضربات مطارق إلكترونية)..
إلخ. ثم حذر أصدقاءه من اثارته بالنقاشات حول مسائل كبيرة وأمرهم أن يكون جل حديثهم
مجرد ثرثرة عن أمور سطحية تافهة فقط.
وهكذا تمت عملية
اندماجه بالمجتمع الاستهلاكي السطحي والتافه أصبحت حياته فضاء حراً، متحرراً من أي
مقاومة. يكمل مارتن باج بعد ذلك سرد نتائج هذا الانسلاخ من العقل، وهذا الاندماج في المجتمع
السطحي والاستهلاكي وهي نتائج لعلها لا تخفى علينا كثيراً فهي مشاهدة مُعاشة في كل
يوم من حياتنا.
*****
قرأت هذه
الرواية من عامين، ولكن ما دفعني للعودة إلى قراءتها والكتابة عنها هي العمق
الكبير والجرح الغائر الذي أصابه مارتن باج من خلال هذا السرد الذكي، والذي يطابق
الحياة اليومية التي أعيشها وأشاهدها، أصبح هناك نفور كبير، لا ليس مجرد نفور بل مقاومة
أيضاً لكل ما هو مفيد، لكل ما هو جمالي أو فكري، مقاومة قد تخسر من خلالها أكثر
أصدقاءك أو مجالسيك قرباً منك. أصبح الناس وبالرغم من شهاداتهم العالية يتجنبون
الحديث عن أي شيء يحفز (مرض الذكاء) حسب تعبير أنطوان في الرواية، أرى وأشاهد هذا
الشره الذي أصاب المجتمع نحو الاستهلاك، والاجتهاد المنقطع النظير والتفاني في تمجيد
الأغبياء ووضعهم على منصات الشهرة في الإعلام ووسائل التواصل وفي كل مكان. أصبحت
الحياة لا تتعدى أن تكون سعي نحو اللامبالاة نحو الشغف لتصنيف الناس حسب مظاهرهم،
ماركات ثيابهم وطراز سياراتهم.. أصبح الشذوذ في المجتمع عامة هو إعمال العقل وكأن
التفكير عملية غير طبيعية. وعقاب كل من يخالف ذلك هو العزلة التامة والنبذ أوالإقصاء
على أقل تقدير.
فالآن أصبح الخيار
صعب، إما أن تختار العقل وتجني من خلاله نبذ المجتمع والعزلة وإما أن تختار
التفاهة واللامبالاة وتجني الاندماج في نسيج المجتمع تنعم بالسلام لا لك ولا عليك، فأيهما تختار؟ ولكن قبل أن تختار تذكر أن
ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِ | وَأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنعَمُ |
--------------------------------------------
مارتن باج - كيف أصبحت غبياً - المركز الثقافي العربي ٢٠١٣
*****
اقرأ في هذه المدونة (هيا نشترِ شاعراً) انقر هنا
*****
لمتابعة قناة حرم الجمال (يوتيوب) انقر هنا
لمتابعة قناة حرم الجمال (تيليجرام) انقر هنا
تعليقات
إرسال تعليق