في مديح الموت

 

 

الموت هذا المخلوق الغامض، المخلوق الذي أشغل الفلاسفة والمفكرين منذ الأزل وقد يشغلنا في أحيان كثيرة، كم منا أخذه التفكير في الموت، عن ماهيته وكيف يكون، ماذا يشعر الانسان عند زيارته له، كم أشغل الموت والخلود مخيلة الفلاسفة، يقول سقراط: حين يأتي الموت لإنسان يحدث أن يموت الجزء الميت منه بينما الجزء الخالد يبتعد ويختفي، سليماً وسرمدياً يتجنبه الموت. ويقول: ليس للنفس شيء لتأخذه معها إلى هاديس إله مملكة الموت غير التربية والنشأة التي يقال إنها الأهم في منفعة الموتى أو تضررهم حالما تبدأ رحلتهم إلى هناك.


 شغل الموت وألم الفقد الإنسان منذ آلاف السنين فها هو جلجامش في حزنه على موت أنكيدو يقول: 

الشاب الجميل, الشابة الجميلة 

ينتزعهم الموت من كهوفهم 

لا أحد يمكنه أن يرى الموت 

لا أحد يمكنه أن يرى وجه الموت 

لا أحد يمكنه أن يسمع صوت الموت

إن الموت قاس لا يرحم 

متى بنينا بيتاً يقوم إلى الأبد؟

متى ختمنا عقداً يدوم إلى الأبد؟

وهل يقتسم الأخوة ميراثهم ليبقى إلى آخر الدهر؟ 

وهل تبقى البغضاء في الأرض إلى الأبد؟

وهل يرتفع النهر ويأتي بالفيضان على الدوام؟

والفراشة لا تكاد تخرج من شرنقتها فتبصر وجه الشمس حتى يحل أجلها. 

 

نلاحظ هذا الادراك الكبير عند الانسان بحقيقة الموت، فالانسان هو المخلوق الوحيد الذي يعي معنى الموت ويعي حقيقته لذلك كان عند الانسان هوس الخلود، وانقسم البشر على مجتمع يأمل في الحياة الدائمة ومجتمع يخاف من عدم الموت. 

 

هذا الغموض للموت، أعطاه هذه المهابة، هذا الحزن الذي ينشره بين البشر جعل له سطوة، وحقيقته هذه لا فرار من سطوتها على أرواحنا إلا بسؤال واحد، مذا لو يخلق الله الموت؟ ماذا سنصبح لو حكم علينا بالخلود؟ 

 

الموت جزء من الحياة لا تتم الحياة إلا به، والمخاوف مما وراء الموت لن ينجينا منها الخلود، وفي مديح الموت كتب خوسيه سارماغو روايته الرائعة انقطاعات الموت، هذه الرواية التي تضعك مباشرة أمام سؤال ماذا لو لم يكن هناك موت، ولإيضاح براءة الموت من الوحشية الموسوم بها يقول: "إن الموت وحده وبحد ذاته ودون مساعدة خارجية قد قتل على الدوام أقل مما يقتل الإنسان".


بالموت يصبح للحياة مغزى، وكل شيء سيكون مباحاً إذا كانت الكائنات البشرية لا تموت اذ أن الأبدية من جهة تجعل الانسان لا يتنازل عن أي شيء، فالانسان وهو يعي حقيقة الموت إلا أن الطمع وحب السلطة يعميه وكأنه مخلد، فما بالكم لو كان مخلداً بالفعل؟ 

 

في رواية انقطاعات الموت سترى كيف سيكون شكل الحياة عندما يعيش الانسان إلى الأبد، كيف سيكون للأديان مغزى بدون الموت؟ كيف ستكون الفلسفة بدون الموت، فكما يقول مونتيني: "التفلسف هو تعلم الموت".


 ماهو شكل الشيخوخة الأبدية؟ تخيل ذاتك بحد ذاته مرعب، بل أكثر رعباً من الموت ذاته. ألم يخترع الانسان الحديث الموت الرحيم هرباً من آلام المرض والشيخوخة؟ مع كل ما يعيه الانسان عن الموت إلا وأن الخلود يراوده، وخوفه على فقد أحبابه يجعله يقسو على الموت. 

 

وليس في مديح الموت نص من بعد رواية انقطاعات الموت جعلني متأملاً حالة الخلود ودافعاً لي للحديث عن هذا الموضوع إلا ما كتبه محمد بنميلود وهذا ما سأختم به ما سأقوله في مديح الموت: 

 

"ما الذي يمنح للحياة كل هذا السحر؟ هذه الجاذبية وهذه الرغبة في مواصلتها؟ إنه الموت.

 لولا الموت لصارت الحياة جحيما. 

من الصعب تخيل أمر كهذا: أن تظل حيا إلى الأبد فوق هذه الأرض تعاني من ألم الأضراس تُحذر من الفيروسات وتدفع الضرائب. 

الأمر الذي يجعلك متأكدا أن كل هذا سينتهي هو ما يمنحه معنى وقيمة. مهما طالت العذابات الإنسانية كما الأفراح والمتع ستنتهي، بالتالي يوازي ذلك ويطابق قدرات الجسد المحدودة على تحمل فائض الألم كما فائض الغبطة.

أما الموت فهو ذلك البديل الميتافيزيقي لانعدام أي بديل. ما يجعله مهابا هو غموضه، وغموضه هو أيضا ما يجعله مستساغا بل مقبولا كذلك، حيث أنه كان سيفقد فاعليته لو انكشف وتجلى، سيصير استمرارا للحياة أو نفيا كاملا لها وليس انتقالا. ليس الموت فقط بل كل غامض لا يستطيع إليه المعنى سبيلا ولا بُدّا هو بديل أيضا لتعاسة المرئي وإحباط الوضوح. ماذا يحدث للموتى؟ لا أحد يعلم. يتحللون وينتهي الأمر؟ أم يواصلون الرحلة عبر أبعاد فيزيائية أخرى؟ أم هنالك شيء آخر لا نستطيع حتى التكهن به؟ في كل الأحوال لقد استطاع الموت بالفعل الحفاظ على أسراره حيث أن لا أحدا عاد منه ليفشيها. الموتى أيضا يصبحون جزءا منه، متواطئين معه، كتومين وساخرين يطلون علينا من فرجات الأبواب وثقوبها ومن درفات النوافذ، ويقهقهون دون صوت خصوصا حين نسيء التصرف أو حين ننهض من الأسرة عراة في اتجاه المراحيض. يطلون علينا أيضا من ثقوب في الهواء دون أن نراهم ومن ثقوب في الأحلام. لعل الموت ليس شيئا آخر سوى الموتى.. 

لا أبحث بهذه الأسئلة عن إجابة أو عن تعريف للموت. بل أبحث فقط عن يدكِ في الظلام لترشد قلبي. يدك التي تنبض بالهشاشة وبغريزة الكتابة..

أما ما أفضله أكثر فهو ذلك التشويق الأزلي الذي أتقنه الموت دائما في أدائه لدوره الخالي من أي مجهود يذكر ومن أي تمثيل. إنه الدور نفسه المكرر دون ملل، دور: الاختفاء. تلك الثانية الأخيرة بعد نهاية فيلم تصبح الشاشة سوداء بالكامل بحيث يستعصي علينا رؤية أحبائنا ومعارفنا داخلها ومع الوقت سيتستعصي علينا حتى رؤية أنفسنا..

ماذا كان سيحدث لو توقف الموت عن أداء دوره؟ سيبقى الجميع أحياء لكن بعاهات. بعد ألف سنة لابد أنك ستفقد عينا أو رجلا أو ربما تفقد رأسك، ورغم ذلك تظل حيا. سعيدا ببقائك على قيد الحياة داخل كابوس أسوأ من الموت. كما بصوت قصيدة لعزت سراييج ساخرا أو ناعيا الذين يعودون من الحرب بأعضاء ناقصة وعاهات مستديمة سوى أنهم سعداء رغم ذلك ومحظوظون للغاية حسب تصورهم لأنهم نجوا من الموت".



لمتابعة قناة حرم الجمال (يوتيوب) انقر هنا 
لمتابعة قناة حرم الجمال (تيليجرام) انقر هنا 
بودكاست حرم الجمال (ساوند كلاود) انقر هنا
بودكاست حرم الجمال (أپل بودكاست) انقر هنا



 

 

تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

رواية خرفان المولى (نظرة تحليلية للبنية النفسية للنص)

توأم الروح