جنتلمان في موسكو .. رواية التحوّل

 


الجنتلمان في موسكو هو الكونت ألكسندر إلييتش روستوف المتهم بأنه سليل الطبقة الارستقراطية، وهذه التهمة كفيلة بأن تجعل اللجنة الطارئة لمفوضية الشعب للشؤون الداخلية أن تحكم عليه بالإقامة الجبرية في فندق المتروبولتان العظيم في موسكو لتبدأ من هنا حكاية سرد تحول روسيا من روسيا القيصرية إلى روسيا البلشفية.

ولكن السؤال هنا لماذا يحكم بالإقامة الجبرية؟ لماذا لم يُنفى ويشرد من روسيا بما أنه من سلالة النظام البائد والذي أقيمت عليه الثورة؟ "فكر الكونت: منذ ظهور الانسان على سطح البسيطة والرجال يذهبون إلى المنافي. لكن الروس كانوا أول من يبرع في فكرة نفي الانسان داخل وطنه. في القرن الثامن عشر كف القياصرة عن طرد أعدائهم خارج البلاد، وآثروا بدلاً من ذلك إرسالهم إلى سيبيريا. لماذا؟ لأنهم قرروا أن نفي رجل من روسيا كما نفى الرب آدم من جنة عدن ليس بالعقاب الكافي؛ ففي بلد آخر، قد يُغرِق الرجل نفسه في العمل، ويبني بيتاً وينشيء أسرة. أي أنه قد يبدأ حياته من جديد. لكن عندما تنفي رجلاً داخل بلده، فلا وجود لبداية جديدة".

 

ومسلماً بهذا الحكم وما ينطوي عليه من عذاب نفسي أكثر من أي شيء آخر، ينتقل الكونت من جناحه الفاره إلى غرفة مهملة في أعلى الفندق لا تتجاوز مساحتها تسع أمتار، وأجبر على اختيار شيء بسيط من ممتلكاته في الجناح، أما بقية ما يملك فسيتحول الآن إلى أملاك الشعب. 

 

سرد آمور تاولز رحلة هذا الانتقال للدولة من القيصرية والأبهة إلى الاشتراكية، وهذا الانتقال للكونت من الرفاهية إلى الإقامة الجبرية  رحلة ماتعة مليئة بالدروس التي يظهرها الكونت، الجنتلمان الحقيقي، الذي لم يجعله هذا التدهور في حياته للتخلي عن مبادئه الرفيعة، وأخلاقه الإنسانية، وحكمته، هذه الحياة التي شهدها لمدة تزيد عن أربعين عاماً تحت الإقامة الجبرية والتي تحول من خلالها من الكونت، حامل وسام القديس أندرو، عضو نادي الفروسية، مستشار الصيد الامبراطوري، إلى نادل في البوياريسكا في فندق المتروبولتان، لنعرف أن ما يصنع الانسان هو الأخلاق، والمبادئ لا ما يملكه أو ما يحمله من ألقاب. 

في مساحة تسع أمتار يسرد النص روتين الكونت في غرفته الجديدة التي صدر منها ثراء روحه فضيق المكان لم يجعل من الكونت ضيق الروح، بل مازال يبدأ روتين صباحه بتمرين جسده، ويوسع مداركه بقراءته لكتبه التي اختارها من بين الممتلكات التي أجبر على الاختيار منها. 


اقرأ في هذه المدونة "عندما تكون الحياة ليست على مقاسك! انقر هنا 

 

في هذه الغرفة الضيقة يزور الكونت إميل وأندري وفاسيلي ومارينا وآنا وصوفيا، حتى يثبت المقولة التي نتداولها "الضيق ضيق القلوب". مع هذه الأسماء سيمتد السرد بين ماض، وحاضر، أسماء ستألفها عزيزي القاريء ستشتاق إليها بعد أن تغلق دفتي هذا الكتاب، شخصيات نعرف من خلالها أن الأرواح إذا ثبتت على ايمانها، على مبادئها، فلن يضر تغير الزمان والمكان فيها. فمما حفظه الكونت من أبيه أن الإنسان إذا لم يقهر ظروفه فحتما ستقهره ظروفه، وتعلم أن أكبر دليل على الحكمة أن يحافظ المرء على بشاشته مهما حدث. 

 

السرد الذي بناه آمور تاولز، والشخصيات التي خلقها تدعو للدهشة لتداخلاتها، لحبكتها، تأثر الشخصيات ببعضها، فبداية دخلت إلى حياة الكونت نينا كوليكوفا الطفلة الذكية التي أضفت على حياة الكونت في اقامته الجبرية شيئاً من البهجة، مدته بطاقة الفضول والاستكشاف، نينا التي لا تسلم بأمر إلا اذا شعرت به وجربته يمتد هذا البناء لهذه الشخصية حتى تكبر وهي بنفس الصلابة والطموح، لتدور الأيام وتعود نينا إلى الفندق، للصديق القديم الكونت، لتودعه ابنتها صوفيا، التي كان مقرراً أن تعود لأخذها، ولكن الحياة في ظل دولة فاشية، لا يضمن لها ذلك، فمن يخرج قد لا يعود، ليربي الكونت صوفيا حتى تكبر لتصبح بمنزلة ابنته التي يبني من أجلها الحياة والأهداف، ليثبت لنا أن "رغم كل الهواجس المصاحبة لتنشئة طفلة حول الواجبات المدرسية والفساتين والسلوكيات – تظل مسؤولية الأب في نهاية المطاف غاية في البساطة: توصيل الطفلة بأمان إلى البلوغ حتى تستطيع أن تحظى بفرصة لعيش حياة هادفة وبمشيئة الله هانئة"


اقرأ في هذه المدونة " الإنسان وعبثية الحياة" انقر هنا 

 

الصداقة التي تجسدت في "ميشكا"، صديق طفولته، تعطي دروساً في الصداقة : أصدقاءنا هم الذين يجب أن يهولوا من قدراتنا. يجب أن تكون لهم آراء مبالغ فيها عن صلابتنا الأخلاقية، وحساسيتنا الجمالية وقدراتنا الفكرية. لأنه إن استهان صديق من قدراتك فماذا بقي للآخرين من الغرباء؟ 

 

الحب، جسدته آنا أوربانوفا، الشخصية المتقلبة المتصارعة مع ذاتها وكأنها تجسد بجمالها روسيا، وتجسد بصراعها الداخلي طبيعة روسيا في ذلك الوقت.

 

السرد لم يغفل وصف المتروبول، الشوارع ، الكنائس، الموسيقى، والفن، بين ماضي روسيا القيصري، وحاضرها البلشفي. 


اقرأ في هذه المدونة "موت ايفان ايلتش .. حتمية الحياة والموت انقر هنا

 

تجربة الكونت ألكسندر روستوف قدمت درساً ثرياً وعميقاً في مواجهة التغيرات، التغيرات على جميع الأصعدة تغير الزمان، المكان، تغير الإنسان ذاته، وتغير طباعه، كيف نواجه هذه التغيرات كيف نحول الظروف الآنية التي فرضت علينا إلى تجربة لا تنتهك انسانيتنا، بل كيف نجعلها تجربة نتأملها لنبني حياة أفضل، وإنسان أرقى، يترفع عن كل ما يحاول أن يجذبه للدونية والانحطاط. 


----------------------------------

جنتلمان في موسكو | أمور تاولز | دار التنوير | ترجمة إيهاب عبدالحميد



لمتابعة قناة حرم الجمال (يوتيوب) انقر هنا 
لمتابعة قناة حرم الجمال (تيليجرام) انقر هنا 
بودكاست حرم الجمال (ساوند كلاود) انقر هنا
بودكاست حرم الجمال (أپل بودكاست) انقر هنا


 

تعليقات

إرسال تعليق

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

توأم الروح

تاريخ المكتبات (٣) الحضارات القديمة وأوراق البردي