المنصة.. منصة الحياة والموت!



" ينقسم الناس إلى ثلاثة أقسام؛ أصحاب الطبقة العليا، الطبقة السفلى، ومن يسقط من أعلى إلى أسفل"

بهذه الكلمات وهذا التصنيف الدقيق بدأ الفلم الإسباني [The Platform] (المنصة)، فلم ديستوبيا قاسي يصور لنا برج الرأسمالية العاجي بأبشع صوره. الفلم تدور أحداثه في برج مقسم إلى طبقات يتوسطها منصة، عليها مائدة تبدأ من الطبقة الأولى، حيث يبدأ أصحاب هذه الطبقة الأولى بالأكل ومن ثم تنزل هذه المنصة تباعاً حتى لا يبقى لأصحاب الطبقات الدنيا منها شيء، طبقات لا يصلها حتى الفتات، طبقات يأكل ساكنوها بعضهم البعض من الجوع. فكرة واقعية مرعبة تعكس سوداوية هذا العالم، وعدم المساواة في توزيع الثروة، والأهم توزيع أساس الحياة، ألا وهو الغذاء. أسئلة كثيرة يطرحها الفلم بعبقرية، وقسوة، قد تكون مزعجة وصادمة بل ومقززة للكثير. 

هذا البرج يمثل العالم، وإدارته تمثل الرأسمالية، ،والمائدة الضخمة وتوسطها لهذا البرج يمثل عصب الحياة، الغذاء،إما التخمة، أو الشبع، أو الجوع. من الجدير بالذكر أن الغذاء في هذا البرج يكفي الجميع، ولكن السؤال هنا، ما السبب في أن أصحاب الطبقات المتدنية من هذا البرج يأكل بعضهم بعضاً؟ لا يجدون حتى الفتات؟ الجواب هو البذخ، الإسراف، واللامبالاة، فأصحاب الطبقات العليا يأكلون أضعاف ما يحتاجون إليه بل أنهم يبددون كثيراً مما يعد عند أصحاب الطبقات المتدنية سبباً للعيش والحياة والاكتفاء. 

اقرأ في هذه المدونة "حرم الجمال..قصة ورسالة"  انقر هنا 

يبدأ الفلم بالمُنضم حديثاً إلى هذا البرج (غورينغ) والذي مازال يحتفظ بإنسانيته وأخلاقياته، اختار (غورينغ) أن يكون رفيقه في هذه الرحلة كتاب، ووجد رفيق طبقته (تريماغاسي) فضّل أن تكون الأداة المرافقة له سكيناً، هذه المفارقة تجعلنا أمام سؤال مهم هل في هذا البرج تنفعك الثقافة والكتب أم الأسلحة والعنف؟ 
عند وصول طعام أول يوم، تعجب (غورينغ) من بقايا الطعام التي تصل إلى طبقته، تقززت نفسه من أكل بقايا طعام الطبقات العليا، فكر بمنطق لماذا لا يقنع الطبقات العليا أن تأكل ما تحتاج إليه فقط؟ فاتهمه (تريماغاسي) بالشيوعية، فالمفترض أن ساكن الطبقة العليا لا يلتفت ولا يهتم بساكن الطبقة التي تدنوه، هذا هو نظام إدارة هذا البرج. مرت الأيام ومع نظام تغير الطبقات المفاجيء والذي يصيب أصحاب الطبقات المتوسطة والمتدنية، عرف (غورينغ) معنى الجوع معنى أن يدفعه الجوع لفعل ما كان يعتقد أنه مستحيل، تخلى عن أخلاقياته، فقد إنسانيته، مزق كتابه، قاتل وقَتَل، حتى أنه أكل لحوم البشر. 

من خلال هذه الفكرة العميقة ومن خلال كل مشهد نجد أن السيناريو يغوص بنا في مواضيع حساسة ومهمة تصور لنا الواقع الذي نعيشه ولا نشعر بوحشيته. يضعنا أمام أسئلة مهمة، هل الإنسان يولد مفطور على الشر؟ أم أن قسوة الحياة، الظلم، أو السلطة تجعل منه ذلك الوحش؟ تُأرجحك دقائق هذا الفلم بين وجهات نظر مختلفة عن الإدارة، عن المثاليات، عن المنطق، الديموقراطية، والدين.

اقرأ في هذه المدونة "قراءة لفلم (المربع)" انقر هنا

الفلم مشبع بالتفاصيل الدقيقة، ومن هذه التفاصيل هي لفتة (منع الادخار)، فهذا النظام يمنع كل شخص من أن يدخر أي قطعة من الطعام، وأي شخص يحاول أن يدخر أي قطعة طعام فإن طبقته التي يسكنها تتعرض للحرارة الحارقة أو البرودة القاتلة، وهذا ما يفعله النظام الرأسمالي، هو ما يدفع أصحاب الطبقات المتوسطة والمتدنية من المجتمع على التفكير في اللحظة الراهنة وحسب، على التفكير في البقاء ولا طموح أسمى من ذلك. ومن هذه المفارقات داخل هذا النظام الوحشي واللاإنساني هو (منع التدخين) وهذه النقطة ناقشها بونوا ديتيرتر في روايته الصبية والسيجارة. (انقر هنا)

أما حوارات الفلم فهي عميقة ودقيقة، ورمزيتها تحتاج الى التأمل، ومن هذه الحوارات هذا النص الديني المقتبس، والذي قد يوحي لسامعه بأن أكل البشر فضيلة، حتى لو وصل بك الحال إلى هذا الأمر فلا تبتئس، اذ يقول هذا النص، "الحق أقول لكم، إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فليس لكم حياة، من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا أقيّمه في اليوم الأخير لأن جسدي مأكل حق، ودمي مشرب حق، من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه"!

اقرأ في هذه المدونة "الحب سم قاتل" انقر هنا

هذا الفلم أنصح به؛ ليس أصحاب القلوب القوية وحسب بل أصحاب المعدة القوية التي لا تستثار بسهولة، أصحاب النفوس القوية المقاومة للإكتئاب، أنصح به المشاهد الذي لا يبحث عن التسلية والأفلام التجارية، فإن كانت تنطبق عليك هذه المواصفات فاعقلها وتوكل وشاهد هذه التحفة الفنية.   


لمتابعة قناة حرم الجمال (يوتيوب) انقر هنا 

لمتابعة قناة حرم الجمال (تيليجرام) انقر هنا 

بودكاست حرم الجمال (ساوند كلاود) ( انقر هنا)

بودكاست حرم الجمال (أپل بودكاست) ( انقر هنا)






تعليقات

  1. انتقد الفيلم النظام الرأسمالي بطريقة عبقرية، وسخر من نظام الاستهلاكية (وهو السبب الذي جعل -تريماغاسي- يدخل الحفرة) بحيث يجعلونك تشتري شيئا أنت لست بحاجة له، يجعلونك تعتقد أن حياتك ناقصة بدونه،وقد أحببت هذه الالتفاتة جدا..
    وقد فهمت من الفيلم جل ماذكرته في حديثك عنه، لكن النهاية كانت محيرة جدا بالنسبة لي، -غورينغ- أوصل الرسالة التي اتضح أنها الفتاة، واختار الموت في النهاية، الرسالة لاتحتاج الى حامل، لكن مامعنى أن تكون الرسالة هي الفتاة؟ مامعنى الرسالة أصلا؟ ثم إن وصولها للطابق 0 لايعني النهاية، لأننا لم نرى ردة فعل العاملين.. أخبره الرجل الحكيم أن الحلوى هي الرسالة، أخبرته موظفة المقابلات أن رمسيس هو الرسالة، ليقرر في الأخير أن الفتاة هي الرسالة.. وماقضية المسيح؟..
    على كل الفيلم صعق عقلي وبشدة.. المخرج أوصل فكرته بوضوح.. لكنه ترك بعض الرسائل المشفرة التي لم أستطع فكها..
    على أي كما قلت الفيلم ليس فيلما تجاريا وليس لاصحاب القلوب الضعيفة
    دمت بخير⁦❤️⁩

    ردحذف
  2. بالمناسبة هناك فيلم ناقش الفرق الطبقي بعبقرية اسمه (طفيلي)
    وهناك فيلم مذهل من السينما للإسبانية للعبقري Oriol Paulo إسمه the invisible guest.. أنصحك بمشاهدته

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

تاريخ المكتبات (١).. مكتبة إيبلا هي الأولى

توأم الروح