المربع

"داخل هذه الحدود جميعنا نتشارك في الحقوق والالتزامات"

كم هي براقة مثل هذه العبارات! ولكنها استناداً إلى الذوق السائد هذه الأيام فهي لا تتصدر العناوين الرئيسة ولا تلقى الاهتمام المتوقع أن تحدثه جملة نبيلة براقة كهذه. وهذا هو موضوع الفلم الدرامي الكوميدي (المربع – (the square.

وهذا المربع هو المحيط الذي بداخله يصبح الإيثار ومساعدة الآخرين إلزامي، ممثلاً بذلك ما يجب أن يكون عليه المجتمع. وفكرة هذا المربع في الفلم هي فكرة فنانة أرجنتينية تريد أن تعرضها في متحف الفن الحديث والذي يترأسه كريستيان والذي يقوم بدوره الفنان Claes Bang. بقدر ما تبدو هذه الفكرة نبيلة، وبقدر ما الفن والفنانين يدعون إلى مثل هذه الأفكار إلا أنه هنا يضع لنا الكاتب والمخرج السويديRuben Östlund  من خلال هذا الفلم العبقري عدة أفكار يغوص بها في منطقة اللاوعي لعاداتنا وردود أفعالنا.

إقرأ في هذه المدونة "الحب سم قاتل" انقر هنا 

أول هذه الأفكار هي المواجهة بين الفن والتسويق للفن، ففي مثل هذه الأيام وبقدر ما أن فكرة هذا المربع نبيلة إلا أن كريستيان واجه معضلة في التسويق لها حتى استعان بشابين متخصصين في هذا المجال، فجمهور هذه الأيام دائماً على عجل ومن الصعب اجتذابه بالطرق التقليدية، فأول الثواني من أي عمل دعائي مهمة جداً لاجتذاب المتابع بالإضافة إلى الموضوع ذاته، وضع الشابان فكرة معاكسة لما يمثله هذا المربع استناداً على أن الجمهور تجذبه قضايا التعرض للحقوق واغتصابها, ويتفاعل معها عاطفياً ولا يجذبه موضوع الدعوة إليها، أو موضوع تذكيره بواجباته اتجاه الآخرين، بمعنى أن المجتمع يعيش في تناقض تام. وعندما تم استخدام هذه الفكرة حقق الإعلان انتشاراً واسعاً ولكن في نفس الوقت غضباً عارماً ضد المتحف والقائمين عليه، وهذا يشير إلى سطحية تفكير المجتمع وتعاطيه مع الإعلان، وردة الفعل هذه وضعت فكرة حرية التعبير على المحك، فالغاضبين من الإعلان هم أنفسهم من يطالب بحرية التعبير عن الأفكار وفي نفس الوقت يريدون مصادرة حرية تعبير القائمين على المتحف! فما هي حدود حرية التعبير وما الذي يحكمها؟

أما الفكرة الأخرى التي تعرض لها هذا العمل هي مدى تطبيقنا وامتثالنا لما ندعو إليه من مثاليات، فمشروع المربع المعني بإيضاح فكرة حفظ الحقوق والالتزامات والمساواة بين طبقات المجتمع، وضع كريستيان مدير هذا المعرض والداعي إلى هذه الفكرة المثالية في عدة أحداث يشرح من خلالها الفلم تفاعلنا كبشر مع ما ندعو إليه. تعرض كريستيان للسرقة في لحظة كان يريد أن يساعد فيها شخصاً يحتاج إلى المساعدة، وذلك تطبيقاً لما يدعو إليه، فماذا بعد هذا الموقف؟ ماهي ردة فعله عندما اكتشف أن ما يدعو إليه ليس براقاً كما يبدو. هل سنتوقف عن الإيثار والمساعدة بسبب بعض المواقف السلبية التي نواجهها؟ 

اقرأ في هذه المدونة "علاج شوبنهاور" انقر هنا

من أجل أن يعيد كريستيان ما سُرق منه قام بتطبيق فكرة استعاد بها ما سُرق منه ولكن هذه الفكرة ضرت طفلاً من الطبقة الفقيرة من المجتمع بدون أن يشعر، الأحداث بين هذا الطفل وكريستيان تعري لنا فكرة الصور النمطية التي نبنيها في مخيلتنا عن الآخر، فالطفل له صورة نمطية سلبية عن الأثرياء، وكريستيان عنده صورة نمطية سلبية عن الفقراء وهنا نجد الفكرة الثالثة التي يناقشها الفلم ألا وهي الأنانية والغرور في التصرفات الإنسانية والتي نقوم بها بدون أن نشعر وذلك من أجل مصالحنا الشخصية.  في خضم هذه الأحداث واجه كريستيان الوجه الآخر من روحه، فبالرغم من أنه يتحدث لمتابعيه وجمهوره عن دور الفن، عن الحياة، وعن الإيثار، ويروج للفكرة المثالية والنبيلة لمعرضه الفني متحدثاً عنها بشغف وإيمان حقيقي إلا أنه عندما واجه ظروف حياتية معينة خرج بها عن سيطرة هذه المثاليات التي يدعو إليها، واجه النصف الحيواني من شخصه، وهذا يدعونا إلى التفكر والتساؤل عن إطلاق أحكامنا على الآخرين، هل واجهنا ما واجهوه في حياتهم حتى نحكم على تصرفاتهم؟ بكل سهولة ننتقد تصرفاتهم، وردود أفعالهم مع جهلنا التام بالدوافع التي أدت إلى خلق هذه التصرفات والدوافع. 

اقرأ في هذه المدونة "فريدا كالو..أيقونة الحركة النسوية" انقر هنا

فلم عميق في الأفكار التي يناقشها، وبالرغم من امتداده لساعتين ونصف إلا أنه سلس يعرض هذه الأفكار وأكثر في قالب درامي كوميدي يجعلنا في مواجهة تامة مع تناقضاتنا، مع تصرفاتنا اللاواعية ومدى تأثيرها على الآخرين. الفلم من انتاج عام ٢٠١٧ وحاز على ثلاث وثلاثين جائزة ورشح لأربعين أخرى.  

لمتابعة قناة حرم الجمال يوتيوب ( أنقر هنا ) 

لمتابعة قناة حرم الجمال تيليجرام ( انقر هنا)

بودكاست حرم الجمال (ساوند كلاود) ( انقر هنا)

بودكاست حرم الجمال (أپل بودكاست) ( انقر هنا)