الإنسان.. والمعنى


الإنسان يبحث عن المعنى – مقدمة في العلاج بالمعنى (التسامي بالنفس)*، قد يكون هذا العنوان مُستغرب، فكيف للمعنى أن يكون علاجاً؟ وقد يبدو أنه عنوان لأحد كتب تطوير الذات والتي تملأ أرفف المكتبات، ولكن الإنسان يبحث عن المعنى هو كتاب للطبيب النفسي فيكتور فرانكل وهو زعيم المدرسة النمساوية الثالثة في العلاج النفسي من بعد المدرسة الأولى والتي ترأسها فرويد ثم تلتها المدرسة الثانية التي تزعمها آدلر ثم تلتهما مدرسة فرانكل، مدرسة العلاج بالمعنى وأساسها (أن الإنسان إذا وجد في حياته معنى أو هدفاً فإن معنى ذلك أن وجوده له أهميته وله مغزاه وأن حياته تستحق أن تُعاش). الإنسان يمر بمراحل وأطوار مختلفة في حياته وقد يصل الحال أحياناً من السوء إلى درجة الإحباط، إلى درجة يفقد عندها كل معاني الحياة ويتمنى الموت وقد يقدم فعلاً على الانتحار.

نحن نؤمن بأن الإنسان خُلق في كبد وأن المعاناة جزء من الحياة كما أن الموت هو جزء من الحياة أيضا وهذا ما يجعلنا نمضي قُدماً بالرغم من حقيقة المآل المتجهين إليه، لذلك فالعلاج بالمعنى (يركز على المستقبل أي على التعيينات والمعاني التي ينبغي أن يضطلع بها المريض في مستقبله) ويركز أيضاً على معنى الوجود الإنساني وكذلك السعي إلى البحث عن ذلك المعنى لأن ذلك يمثل قوة الدفع الأولى لاستمرار حياة الإنسان.

توصل فرانكل لهذا النوع من العلاج بعد مشاهدته ما للإنسان من قدرة هائلة على مواجهة الصعاب وعلى مقدرته في التأقلم على أي شيء وذلك بعد تجربة مريرة له في معتقلات النازية خلال الحرب العالمية الثانية إذ يقول فرانكل عن الحرب العالمية الثانية (مدينون لها لأنها قد أغنت معرفتنا بعلم النفس المرضي للجماهير لأن الحرب قد أعطتنا حرباً للأعصاب كما أعطتنا معسكراً للإعتقال)  وهذا مما يعطي الكتاب طابع جاد من خلال تجربة واقعية وحية يسرد لنا تفاصيلها خلال فصول هذا الكتاب ليعطي أمثلة حية تثبت النظريات التي توصل إليها ابتداء من دخول المعتقل عندما يصبح الإنسان فيه مجرد رقم ويُجرد من كل ما يملك حتى اسمه. فكيف كان لأولائك المساجين أن يجدوا معنى للحياة حتى يستمروا فيها ويقاوموا؟ كيف اختلفت قدرات شخص عن الآخر حتى وصل لليأس ذاك واستمر في النضال الشخص الآخر؟ كيف كانت الحياة اليومية في معسكر الإعتقال تنعكس في عقل السجين؟

فصل فرانكل ردود أفعال السجين العقلية والنفسية حيال حياة المعسكر إلى ثلاثة أطوار تتخللها الكثير من التفاصيل وسأتحدث عن هذه الأطوار باختصار.

الطور الأول : الصدمة وهي القشرة التي تعقب دخول المعتقل مباشرة ويتخللها ما يعرف في علم الطب النفسي العلاجي بـ (وهم الإبراء) ويظهر خلالها تعلق السجين بوهم الإفراج عنه ويستمر بعدها بالمرور بمراحل مختلفة ومواقف كثيرة حتى يتحطم هذا الوهم فيتملك السجناء بعد ذلك احساس مروع بالفكاهة ثم يصاب بحب الاستطلاع ومحاولة البحث عن الدهشة، دهشة وإن كانت بسبب أتفه الأشياء فمثلاً (دهشة تتعلق بالتساؤل التالي: لماذا لا نصاب بالبرد في كل هذه الظروف؟! ) بالرغم أنهم يعملون تحت المطر وعلى الصقيع وفي أجواء حياتية وصحية سيئة، ويفسر فرانكل هذا الشعور على أنه رد فعل يقوم به العقل ليشغل نفسه عن الظروف المحيطة وذلك كوسيلة للوقاية.

الطور الثاني: وهو (البلادة أو الموت الانفعالي) وفي هذه المرحلة لا يتأثر السجين بأي شيء مما يراه من الموت والتعذيب والأمراض وهذا التصرف ليس إلا ميكانيكية يصل إليها العقل للدفاع عن الذات لأن الواقع مظلم ويصبح هم الإنسان الأوحد في ظروف كهذه هو النجاة بنفسه .

الطور الثالث: وهو نفسية السجين بعد الخروج من السجن، لوحظ أن السجين وصل لمرحلة فقد عندها الإحساس بالسرور حتى أن الخروج من المعتقل لم يكوّن أي فارق في مشاعره واتضح أن هؤلاء السجناء في حاجة لإعادة تعلم هذه المشاعر وهذا ما يطلق عليه (اختلال الشخصية)، فعندهم يصبح كل شيء غير حقيقي وذلك لأن العقل قد ابتكر طريقة الخداع والتحايل أثناء اعتقالهم حتى يقاوم، فعلق هذا الإحساس بعد الخروج، أي أن العقل لم يستطع استيعاب أن الإفراج والخروج من المعتقل حقيقة.
يمر السجين بعد الخروج من المعتقل بمراحل وصعوبات كبيرة ومن أعظمها هي أن يكون قد فقد الشيء الذي وضع آماله عليه وتابع الحياة وعانى من أجله، عندما حلم بأنه سيقاوم حتى يرى زوجته أو أبنائه، حتى يرى المنزل الذي طالما حلم بالعودة إليه ثم لا يجد شيئاً من ذلك ولكن كما وضح الدكتور فرانكل أن العزاء الوحيد كان هو قولهم لبعضهم (لن توجد سعادة على الأرض تستطيع أن تعوضنا عن كل ما عانيناه).

بعد الاستعراض السابق لما تعرض له هؤلاء السجناء في المعتقل، حيث أن هذا العناء يمكن اسقاطه على معاناة أي شخص بغض النظر عن اختلاف الظروف التي قد تقع للإنسان فتؤدي به إلى فقد الأمل في استمرار الحياة، سأحاول أن استخلص لكم بعض التغيرات العقلية والنفسية التي ساعدت هؤلاء على الحفاظ على قوتهم الروحية حتى يتمكنوا من الاستمرار بالحياة:

v   الحب: (خلاص الإنسان هو من خلال الحب وفي الحب) فكم منهم من وضع نصب عينيه شخص يحبه، مصراً على الإستمرار ليحظى برؤيته مرة أخرى جاعلاً جُل تفكيره وتأمله في ذلك المحبوب. وهنا يكون الحب وصل لأبعد من مجرد القرب البدني واتجه إلى المعنى الأعمق، المعنى الروحي. وهذا ما جسد في ذاكرتي قول جلال الدين الرومي "الوداع لا يقع إلا لمن يعشق بعينيه أما ذاك الذي يحب بروحه وقلبه فلا ثمت انفصال أبداً"

v   تقوية الروح الداخلية من خلال الاستغراق في الماضي، فتجد أن الواحد منهم استغرق بخياله في جميع التفاصيل القديمة دقها وجلها ومازال العقل يضخم أهمية هذه الذكريات حتى يستطيع الإنسان أن يعي بأنه كما الآن هناك معاناة كان يوماً هناك أيضاً ما يبهج في هذه الحياة وهذا يعطي مزيدا من الأمل.
v   الإحساس بالجمال: فصار السجين أكثر نزعة إلى أن يخبر جمال الفن والطبيعة بطريقة لم يعهدها من قبل. فهنا يظهر لنا وبالرغم من فقد الإحساس بالحياة إلا أن ذلك يعد شعوراً مؤقتاً ويبقى تحسس الجمال هو الأصل. ويظهر لي من ذلك أن اعتياد الإنسان على الشيء يفقده الإحساس به وهؤلاء عندما فقدوا جميع مناحي الجمال والحياة أصبحوا يتحسسون الجمال في أدق الأشياء التي لم يعد يشعر بها الإنسان الممارس لحياته بشكل طبيعي.
v   الفن: وهنا قد يتعجب البعض مثلي تماماً عندما قرأت هذه الكلمة، (الفن) وهل في المعتقل فنون؟ ، وما يقصده الدكتور فرانكل هنا هو تجمع المساجين ومحاولة الغناء أو التمثيل قليلاً وبأي شكل من الأشكال حتى يضحكون فكان ذلك يساعدهم على النسيان.
v   تنمية روح المرح كحيلة للمحافظة على الذات فقد كان ابتداع المرح سلاحاً قوياً من أسلحة الروح في نضالها من أجل البقاء أو المحافظة على الذات.
v   الإيمان بأن المعاناة حالة نسبية وهذا ما تعلّموه من جراء بشاعة المعتقلات لدرجة أصبح الواحد منهم يسعد، ويعتريه الأمل حينما يذهب لمعتقل دون آخر ويستبشر بمناوبة حارس دون آخر. ومن هذه النقطة نستخلص أنه مهما بلغت بك المعاناة فهناك من يعاني أكثر منك، مهما بلغ بك الحزن فهناك من هو حزين أكثر منك، الإيمان بذلك واستحضاره دوماً يعطي دائما جرعة من الأمل والامتنان.
v   الحرص ثم الحرص على الا يفقد الإنسان احترامه لذاته، ففقد الإنسان احترامه لذاته يؤدي به إلى فقد الشعور بفردانيته وقيمته وينزل بذلك إلى مستوى الحياة الحيوانية وعندها يصل الإنسان إلى نقطة اللارجعة وقد يقدم على الانتحار.

ومن هنا نخلص إلى أن (الحرية الروحية وهي التي لا يمكن سلبها من الإنسان إلا بإرادته هي ما تجعل الحياة ذات معنى وذات هدف)، وليعلم الإنسان أن الطريقة التي يتقبل بها قدره ويتقبل بها كل ما يحمله من معاناة قد تهيئ له فرصة عظيمة ليضيف إلى حياته معنى أعمق، فيجب أن نغير نظرتنا إلى الحياة، فبدلا من أن نصب اهتمامنا على ما يمكن أن تقدمه الحياة لنا، فلنوجه هذا الاهتمام على ما يمكن أن نقدمه نحن للحياة.
فأنت أيها الإنسان مخلوق متفرد و(حينما يتحقق الشخص من استحالة أن يحل أحد مكانه، فإن هذا يسمح بظهور المسؤولية بكل ضخامتها وأبعادها مما يحمله الشخص لأجل وجوده واستمراره وبكل ما يحمله من عظمة. إن الإنسان الذي يصبح واعياً بالمسؤولية التي يحملها إزاء إنسان آخر ينتظره بشوق وحنان، أو إزاء عمل لم يكتمل، سوف لا يكون قادراً أبداً على التفريط في حياته. فهو يعرف سبب وجوده ويشعر بالغاية منه، ويكون قادراً على تحمله بأي شكل من الأشكال).

لذلك يجب أن نتذكر دوماً "أن كل نفس ذائقة الموت لكن ليست كل نفس ذائقة الحياة"**




*الإنسان يبحث عن المعنى - مقدمة في العلاج بالمعنى (التسامي بالنفس) / فيكتور فرانكل
ترجمة: الدكتور طلعت منصور – دار القلم – الطبعة الأولى ١٤٠٣ هـ - ١٩٨٢م
**جلال الدين الرومي


تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

باهَبَل مكة Multiverse - رجاء عالم

عالم صوفي * .. رحلة تطور الفكر الإنساني (٢)