جورج أورويل ١٩٨٤
تخيل أنك تعيش في عالم لا يحق لك أن تفكر فيه بحرية !
مراقب في كل حركاتك وسكناتك!
حتى أحلامك مراقبة!
وكل كلمة تقولها تحتمل معنى آخر يودي بك للجحيم!
هذا هو العالم الذي يصوره جورج أورويل في روايته ١٩٨٤، العالم الذي يجسد الحكم الشمولي. كيف يؤثر هذا الحكم على الناس، ماهي الطرق التي يتخذها للسيطرة عليهم، وكيف يغيرهم؟
هناك روايات عديدة تتحدث عن الحكم الشمولي أو عن الديكتاتور، فحفلة التيس ليوسا تتحدث عن ديكتاتور جمهورية الدومينيكان رافائيل تروخييو، والساعة الخامسة والعشرون لقسطنطين جيورجيو تتحدث عن أهوال الحكم الشمولي في الحرب العالمية الثانية، ولكن رواية ١٩٨٤ صورت عقلية الحكم الشمولي وثقافته بصفة عامة، ١٩٨٤ رسالة تحذير للأجيال منذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا، خارطة توضح كيف يبدأ طريق الحكم الشمولي وإلى ماذا قد ينتهي.
اقرأ في هذه المدونة "الساعة الخامسة والعشرون.. وجه حيواني للانسان" انقر هنا
رواية ١٩٨٤ كُتبت في عام ١٩٤٩م وعندما تقرأها اليوم تجدها وكأنها كتبت في عصرنا هذا، رواية استشرفت المستقبل ووضعته بين أيدينا، المراقبة التي كانت عن طريق الشاشات المنتصبة في كل مكان، والميكروفونات المزروعة، والابن الذي يشي بأبويه والزوجة التي تشي بزوجها، فلم يعد هناك أي خصوصية أو سر يُخفى في مكان، هل تصور جورج أوريل أن الحدث سيبقى مستمراً بتفاصيله من ذلك اليوم إلى الوقت الراهن وعلى ما يبدو إلى مستقبل غير قريب، فالهواتف تراقبنا، الخوارزميات تعرف عنا أكثر مما نعرفه نحن عن أنفسنا، ومواقع التواصل الاجتماعي تجعلنا ننشر خصوصياتنا وأسرارنا بكامل ارادتنا! اليوم العالم لا يحتاج إلى الوشاة.
١٩٨٤ رواية متخيلة بطلها ونستون سميث، والذي يعيش في دولة أوقانيا، التي يحكمها الحزب الذي يتصدر المشهد فيه "الأخ الأكبر" الذي يراقب الجميع أين ما وجدوا وكيفما كانوا. أوقانيا شعارها؛ الحرب هي السلم، الحرية هي العبودية، الجهل هو القوة. أعلم مدى اندهاشك من هذا التناقض، ولكن هذه هي أوقانيا وهذه هي سياسة الحزب، فكل ما فيه يُبنى على المتناقضات، ولكن هل هذا التناقض كان عبثاً؟ بالطبع لا.
وزارات الدولة هي وزارة الحقيقة التي تُعنى بتزوير الحقائق، وزارة الحب ترعى النظام والقانون وبالتالي السجون والتعذيب، ووزارة السلم مختصة بالحرب. هذا التناقض يعني "قدرة المرء على حمل معتقدين متناقضين في الوقت عينه، وقبولهما معاً وبذلك يكون الأشخاص الأكثر معرفة بما يحدث حقاً هم أنفسهم أيضاً الأشخاص الأكثر بعداَ عن رؤية العالم مثلما هو في حقيقة الأمر." فكل هذه التناقضات هي تدريب على المبدأ الذي يقوم عليه الحزب الشمولي أياً كان، مبدأ التفكير المزدوج "فلا يمكن الاحتفاظ بالسلطة من غير نهاية إلا عن طريق التوفيق بين المتناقضات".
أما الطريقة الأخرى التي يسيطر بها الحزب الشمولي على الشعب هو "تغيير اللغة" فقد قام الحزب بإنتاج ما يسمى باللغة الجديدة والتي تم من خلالها حذف جميع الكلمات التي قد تحتمل معنى يقوض السلطة، فيقول " ألا تدرك أن الهدف النهائي من اللغة الجديدة هو الحد من آفاق التفكير بحيث تصبح جريمة الفكر شيئاً مستحيل الوقوع من الناحية النظرية." وهل يخشى الحزب الشمولي أينما كان شيئاً أكثر من إعمال الفكر؟ "إن الولاء يعني انعدام التفكير، بل يعني انعدام الحاجة للتفكير أيضاً. الولاء هو عدم الوعي." فاللغة ليست أداة للتواصل، اللغة وسيلة للتفكير"، لذلك تتناقص كلمات هذه اللغة مع مرور الأيام لأنه بانعدام وجود الكلمة ، لا يمكن أن تجد الفكرة.
اقرأ في هذه المدونة "عبادة المشاعر" انقر هنا
الحزب الشمولي يسعى جاهداً لتغيير الماضي ويعيد كتابة التاريخ والإنجازات والانتصارات التي يريدها، فشعار الحزب " من يتحكم بالماضي يتحكم بالمستقبل: ومن يتحكم بالحاضر يتحكم بالماضي" فتدمير الماضي يؤدي إلى استحالة إقامة البرهان على شيء، فذاكرتك لا تعد شيئاً تحت حكم الحزب الشمولي، فتغيير الماضي له سبب إخضاعي وسبب وقائي. يجب أن تعيش في حاضر تتأكد فيه بأنك تعيش أفضل من أسلافك، ودخلك المادي أفضل من أسلافك، تغيير الماضي يحفظ عصمة الحزب، فالحزب توقعاته دائماً صائبة، الحزب لا يغير قناعته ومبادئه، فهذه علامات ضعف، والحزب لا يكون ضعيفاً أبداً، وبذلك يبقى التاريخ تحت حكم الحزب الشمولي في تحديث مستمر.
الحزب الشمولي يرسم حياة من يحكمهم، فعامة الناس أي - من ليسوا من أعضاء الحزب - يجب أن يبقوا في طبقة متدنية، ولا بد من ابقائهم خاضعين كالحيوانات، وجعل عقولهم مشغولة بالعمل الجسدي الشاق، والاهتمام بالمنزل والأطفال، والشجارات التافهة، وكرة القدم، والبيرة. " فإذا تمتع الجميع بالأمان والرخاء على قدم المساواة، فإن الكتلة الكبرى من البشر التي يخدرها الفقر عادة ستصبح متعلّمة وسوف تبدأ التفكير وحدها. وعندما تفعل ذلك، فسوف تدرك، عاجلاً أو آجلاً، أن القلة ذات الامتيازات عديمة النفع وهنا ما سيجعلها تزيحها."
الحزب الشمولي يجب أن يبقى في حالة حرب، "لكن ذلك ليس تدميراً للأرواح البشرية. بالضرورة، بل لتدمير منتجات العمل البشري. إن الحرب طريقة من أجل تبديد الموارد التي من شأنها، أن تُستخدم لجعل الجمهور مرتاحاً أكثر مما يجب، مما يعني جعله ذكياً أكثر مما يجب على المدى البعيد. يجب أن تستهلك الموارد فيما يجب أو فيما يستحق أمام الرأي العام ألا وهو - حماية الجميع من العدو - ويجب أن يستشعر الجميع الخطر، فهذا يجعل القبول بوجود السلطات كلها بيد جماعة صغيرة من الناس أمراً طبيعياً، بل شرط من شروط البقاء.
اقرأ في هذه المدونة " با هبل مكة Multiverese رجاء عالم" انقر هنا
يشرح لنا جورج أورويل جميع أساليب الحزب الشمولي وأفكاره في السيطرة على الشعب كرسالة تحذير أو كما يسمى بلغة اليوم العلامات الحمراءRed Flags وذلك حتى نتنبه، ونحاول أن نتمسك بعقولنا وانسانيتنا بقدر المستطاع حتى لا تأتي اللحظة التي نخسر فيها كل شيء، ويصبح الناس كما يريدون كالأنعام، بل أضل.
كل هذه الأفكار وكل هذا المجهود في فرض السلطة ماهي الغاية منه؟ هل هو أداة أم وسيلة لهدف ما؟
يجاوبنا باختصار ويقول:
ليست السلطة أداة، بل هي غاية! لا يقيم المرء ديكتاتورية حتى يحمي ثورة... يقوم المرء بثورة حتى يبني حكماً ديكتاتورياً! دافع الاضطهاد هو الاضطهاد! ودافع التعذيب هو التعذيب! ودافع السلطة هو السلطة!
ما هي السلطة في نظر الديكتاتور؟
السلطة هي إنزال الألم والإذلال بالآخر. السلطة هي تمزيق عقول البشر إرباً ثم تركيبها من جديد في أشكال أخرى تقررها أنت. وأسمى أوجه السلطة كما يوضح، "السلطة الحقيقية، السلطة التي يتعين علينا أن نقاتل من أجلها ليل نهار، ليست سلطة على الأشياء، بل على الناس". "السلطة هي السلطة على بني البشر. على الجسد، لكن على العقل قبل كل شيء آخر. وأما السلطة على المادة... الواقع الخارجي مثلما تدعوه أنت... فما هي بالأمر المهم. إن سيطرتنا على المادة مطلقة منذ الآن."
اقرأ في هذه المدونة "من حياة الأدباء - ٠٢ - ادغار الآن بو" انقر هنا
هذه الرواية خريطة للسلطة حين تتحول إلى مطلق، هذه الرواية رسالة مفادها أن أخطر أنواع الطغيان، ليس تلك التي تسجن الجسد، بل التي تسجن العقل.
يبقي السؤال مفتوحاً، هل الحرية حقيقة؟
لمتابعة منصات حرم الجمال (انقر هنا)
تعليقات
إرسال تعليق