كوميديا دانتي | ٠٤

 

 

فاجأكم دانتي بوضع الفلاسفة والعلماء في الجحيم، أليس كذلك؟ فإذا كان هؤلاء من خدموا البشرية في الجحيم فما حال المذنبين؟ 

 

نبدأ الأنشودة السادسة، أنشودة الشرهين الذين يقعون في الحلقة الثالثة من الجحيم وهذه الحلقة يصور فيها العذاب دانتي ويقول: تصوروا معي المشهد، تصوروا هذا العذاب: 

 

أنا في الحلقة الثالثة، حلقة المطر الأبدي، اللعين، البارد الثقيل، الذي لا يتجدد عنفه أبداً ولا يتغير نوعه.

بَرَد كبير، ومياه مسودة، وثلج يهطل خلال الهواء المظلم، فتبعث كريهَ الروائح الأرضُ التي تتلقى هذا كله. 

 

ومن يحرس هذه الحلقة من الجحيم؟ يصور دانتي أن حارس هذه الحلقة هو تشيربيروس وهو كلب خرافي في الميثولوجيا القديمة. وهذه صورة لغوستاف دوريه توضح هذا المخلوق.



 

ويكمل وصفه دانتي ويقول

 

وتشيربيروس الوحش الكاسر العجيب، يعوي ككلب ذي أفواه ثلاثة، على رؤوس القوم الذين غُمروا هنا. 

إنه ذو عينين حمراوين، ولحية كثة سوداء، وبطن كبير، ويدين تسلحتا بالمخالب، وهو يمزق الأرواح، ويسلخها، ويشطرها أرباعاً. 

 

ونلاحظ اختيار دانتي هنا لهذا المخلوق الخرافي فالأفواه الثلاثة، والبطن الكبير والمخالب كلها صفات تمثل الشره، لذلك صور أن عذاب هؤلاء يكون بهذا المخلوق المرعب. 

 

في هذه الأنشودة يصف دانتي كثيراً من حال فلورنسا في زمنه حيث كانت مدينة مليئة بالحسد والتنافس على المصالح والثروات، التنافس بين الطبقات الوسطى والنبلاء وكل ذلك كان من أسباب تردي حال فلورنسا في ذلك الزمن. 

ويبقى هؤلاء في هذا العذاب حتى ينفخ في البوق وتقوم القيامة، ويصور مايكل أنجلو الملائكة تنفخ في الأبواق. 

 

ينتقل دانتي وفرجيليليو من هذه الحلقة إلى الحلقة الرابعة من الجحيم والتي يحرسها بلوتوس، وبلوتوس هو إله الثروة وهو العدو الأكبر للإنسان، وهذه صوره لغوستاف دوريه تصور مرور دانتي وفيرجيليو، ويظهر فيها تذمر وغضب بلوتوس من وجودهما. 



هذه الحلقة، هي حلقة البخلاء، والمبذرين، وسريعي الغضب، والكسالى وفي هذه الحلقة من الجحيم خيال واسع وصور كثيرة تعطينا فكره عن خيال دانتي فكيف يصور عذاب هؤلاء، يصور دانتي عذاب هؤلاء أن البخلاء يشكلون نصف حلقة إلى اليسار والمبذرين نصف حلقة أخرى إلى اليمين ليشكلا دائرة وكل نصف يتجه عكس الآخر يصطدمان ببعضهما وهم يحملون صخورا ثقيلة تمثل الثروات:

 

رأيت هنا قوماً أكثر من كل موضع آخر، ومن هذا الجانب وذاك وبصرخات مدوية أخذوا يدفعون أثقالاً بقوة صدورهم.

وتصادموا في تقابلهم، وهناك دار كل منهم، متجهاً إلى الوراء، وهم يتصايحون: لماذا تحرص؟ ولماذا تبدد؟

 

ولكن كيف يصور خروج هؤلاء من القبور؟

 

يقول:

 وسيأتون أبداً إلى نقطتي الصدام، وسيخرج أولائك من القبر مقفلة قبضاتهم، وهؤلاء وهم حليقوا الرؤوس. 

لقد أفقدهم سوء البذل وسوء الحفظ العالم الجميل، وألقى بهم في هذا الصراع: ولست أنمق كلاما لكي أصوره.

 

نرى البخلاء سيبعثون مقبضة أيديهم كناية عن البخل، وسيخرج المبذرون وقد نزع شعر رؤوسهم كناية عن إنفاقهم المال بدون حساب، ويدل ذلك على أن كل تبذيرهم لا يساوي أكثر من شعر رؤوسهم. 

 

ثم يكملا المسير دانتي وفرجيليو حتى يرى دانتي مجموعة أخرى من المعذبين، 

 

وأنا الذي وقفت لكي أمعن النظر، رأيت قوماً غمرهم الطين في ذلك المستنقع، كلهم عرايا ذوو وجوه غاضبة.

تضارب هؤلاء لا باليد وحدها، إنما بالرأس والصدر والقدمين، وبأسنانهم مزقوا أنفسهم إرباً إرباً. 

قال أستاذي الطيب يا بني، إنك ترى الآن نفوس من غلبهم الغضب. 

 

فتخيلوا العذاب الذي يتصوره دانتي لمن يتحكم فيهم الغضب، كيف لهم أن يبقوا في هذا العذاب إلى الأبد. فهكذا روح من يتملكه الغضب في الدنيا ثائرة تمزقه ولا يشعر براحة أبداً. هنا في هذه الحلقة يجمع دانتي المتضادات فيجمع البخيل والمبذر، والغاضب والكسول الخامل.

 

 يكملان المسير دانتي وفرجيليو ويصلان إلى الحلقة الخامسة من الجحيم أي الأنشوده الثامنة وهي استكمال لعذاب الغاضبين والكسالى، ولكن عند وصولهم تفاجأ دانتي بقارب مندفعاً نحوه بقوة، يقوده فيلجياس الشيطان وهو حارس هذه الحلقة من الجحيم،وفليجياس كما يروى في الميثولوجيا القديمة أنه ابن مارس وملك أوركونوس ووصل إلى الجحيم بعد أن أحرق معبد دلف للانتقام من أبولو الذي أغرى ابنته كورونيس، حينها غضب عليه الإله وأرسله للجحيم. وهذه لوحة تصور ابولو وكورونيس.



وعندما وصل فليجياس إلى دانتي وفرجيليو كاد أن يبطش بدانتي لولا أن أوقفه فرجيليو، وبعد حوار مع فيرجيليو وشد وجذب أوصلهما فليجياس بقاربه إلى أسوار مدينة ديس. وهذه صورة تصور فليجياس على قاربه ومعه دانتي وفرجيليو:



 لوحة أخرى أكثر درامية ليوجين ديلاكروا  تصور حال المعذبين ودانتي وفرجيليو على القارب:




 مدينة ديس التي تبدأ منها الحلقة السادسة من الجحيم، الحلقة السادسة من الجحيم تبدأ بها الجحيم السفلى التي كما ذكرت في الحلقة الأولى يكون سكانها أعظم ذنوباً وبالتالي أشد عذاباً ويصف دانتي المدينة من الخارج: 

 

قلت: أستاذي إني أتبين بوضوح معابدها هناك في الوادي، محمرة اللون كأنها خارجة من النار.

قال لي: النار الأبدية التي تستعر داخلها تجعلها بادية الحمرة، كما ترى في هذه الجحيم السفلى. 

ثم وصلنا إلى الخنادق العميقة، التي تحيط بتلك المدينة البائسة: لقد بدت لي كأن اسوارها من حديد. 

وبعد أن قمنا أولاً بدورة كبيرة، جئنا إلى مكان صاح الملاح عنده بنا عالياً: اخرجا، هو ذا المدخل

رأيت أكثر من ألف شيطان على الأبواب يهطلون من السماء، وصاحوا في غضب: من ذا الذي يسير في مملكة الموتى دون أن يعرف الموت؟ فأبدى أستاذي الحكيم إشارة برغبته في التحدث إليهم سراً.

 

ثم دار حوار بين فيرجيليو وهؤلاء الشياطين الذين رفضوا دخلوا دانتي، إلا أن الرحلة كان من المفترض أن تكتمل بأمر السماء.

 

يتبع ...



لمتابعة منصات حرم الجمال ( انقر هنا ) 



كوميديا دانتي| الحلقة الرابعة 

تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

رواية خرفان المولى (نظرة تحليلية للبنية النفسية للنص)

رامبرانت .. سيد الضوء والظلال