كوميديا دانتي | ٠٣

 

 

الأنشودة الرابعة والتي تبدأ فيها أولى حلقات الجحيم وهي التي أسماها دانتي باللمبو، وهو المكان الذي يستقر فيه عظماء العالم القديم الذين ماتوا قبل ظهور المسيحية ومقر من ماتوا ولم ينالوا التعميد المسيحي بعد ميلاد عيسى عليه السلام، وعذابهم هو أن يعيشوا تحدوهم الرغبة في الخلاص دون أمل في الحصول عليه، وهنا يظهر تأثر دانتي بأفكار العصور الوسطى وتأثره الديني الذي يحرم الجنة على كل من لم يكن مسيحياً حتى لو عاش قبل ظهور المسيحية أصلاً. إذاً أساس النجاة عند دانتي هو اتباع الدين ومن ثم يُنظر إلى عملك فبدون الدين ليس للإنسان نجاة عند دانتي. 

وفرجيليو صوره دانتي أنه من سكان هذا الجزء فيقول على لسانه في الانشودة الرابعة: 

 

قال أستاذي الطيب: (إنك لا تسأل: أية أرواح هذه التي تراها؟ الآن أريدك أن تعرف، وقبل أن توغل في المسير،

أنهم لم يأثموا، وإذا كانت لهم فضائل، فهي لا تكفي، لأنهم لم ينالوا التعميد، الذي هو باب للعقيدة التي تؤمن بها.

وإذا كانوا قد عاشوا قبل المسيحية، فإنهم لم يعبدوا الله كما ينبغي: وأنا نفسي واحد من بين هؤلاء.

بمثل هذه العيوب أصبحنا من الهالكين، لا بخطيئة أخرى، وعذابنا الوحيد أن نعيش في شوق لا يحدوه أمل).

أخذ بقلبي أسى مرير حينما سمعته لأني عرفت أن قوماً ذوي قدر عظيم، كانوا معلقين في ذلك اللمبو.

 

ولكن هل هناك من خرج من اللمبو، واستحق الفردوس؟ 

يصور دانتي أن عيسى عليه السلام أتى وأخرج من يستحق من هؤلاء إلى الفردوس وهذه لوحة تمثل هذا المشهد للفنان الإيطالي دومينوكو بيكافومي حيث المسيح عليه السلام يخرج من يستحق الخروج

ولكن من هم هؤلاء؟

 يقول دانتي:

 

وانتزع أبينا الأول وشبح ابنه قابيل، وشبح نوح، وموسى المشرع المطيع.

والبطريق إبراهيم والملك داود، وإسرائيل ومعه والده وأولاده، وراحيل التي فعل إسرائيل من أجلها الكثير.


وقابل هنا أيضاً هوميروس صاحب الإلياذة والأوديسة، وهذه جدارية للفنان يوجين ديلاكروا توضح هوميروس محاطًا بالشعراء أوفيديوس ولوكانوس وهوراتيوس ، يرحبون بدانتي الذي أحضره فيرجيليو 

 

وفي اللمبو يصور لنا دانتي أنه رأى الكثير من الفلاسفة والعلماء منهم من كانوا من العالم القديم ومنهم العلماء المسلمين ويصور وجودهم هنا بالرغم من أثرهم على العالم إلا أنهم غير مسيحيين فيقول:

 

وحينما رفعت عيني إلى أعلى قليلاً، رأيت أستاذ الذين يعلمون، يجلس بين أسرة فلسفية. ويقصد بذلك أرسطو.

ويكمل وهنا رأيت سقراط، وأفلاطون، اللذين وقفا أقرب إليه من الآخرين.

وديموقريطس الذي يجعل العالم وليد الصدفة، وديوجينس...


ويعدد كثيراً من الأسماء التي استوحى منها رافاييل جداريته مدرسة أثينا:


فذكر أنه رأى هنا أيضاً صلاح الدين، ابن سينا وابن رشد الذي صنع التفسير الكبير.

 

الأنشودة الخامسة منها بدأ في وصف الحلقة الثانية من الجحيم، حلقة من ارتكبوا خطايا الجسد لأنهم غلبوا العاطفة على العقل، وعذاب هؤلاء أن تدور بهم عاصفة هوجاء دون أمل في راحة أو في أن تخف عنهم حدة الألم. ويصور دانتي عذابهم بالعاصفة لأن الشهوات تعصف بالإنسان وتردي به. وعند مدخل هذه الحلقة وجد الشاعران مينوس قاضي الجحيم الذي يعترف له الآثمون بما ارتكبوا فيحكم بإرسالهم إلى الموضع الذي يناسبهم. وصور مايكل آنجلو مينوس بشكل مرعب في جدارية الحكم الأخير:



يصف دانتي هذا المشهد: 

 

هكذا هبطت – أسفل – من الحلقة الأولى إلى الثانية، التي تحيط بمكان أصغر وآلام أعظم، وتلهب حد العويل.

هناك يجلس مينوس الرهيب، ويصر على أسنانه: يزن الآثام عند المدخل، وبلفات من ذنبه يحكم ويقذف.


 

ويقسم دانتي الآثمين الذين غلبوا العاطفة والشهوة على العقل إلى قسمين: القسم الأول، من أمعن في الشهوات والملذات بقصد وعن سابق إصرار، وصور أنه رأى في الجحيم من هذه الطائفة سميراميس ملكة الآشوريين. والطائفة الثانية: هم من ارتكبوا الخطيئة بغير قصد، بل غلبتهم العاطفة والظروف، وعلى رأسهم ديدو مؤسسة دولة قرطاجنة، وذنبها كان أنها أقسمت أنها لن تتزوج بعد زوجها سيكيو ولكنها وقعت في حب اينياس وسلمت له نفسها وهجرها إلى إيطاليا فتولاها اليأس وانتحرت كما تقول الأسطورة، فهذه غلبها الحب ولم تفعل ما فعلت عن سبق إصرار وتعمد، وهناك لوحة من عمل الفنان العظيم روبنز يصور ديدو وهي تغمد السيف في صدرها:


وهذه لوحة أخرى لسيبستيان بوردون تمثل مصرع ديدو:

وذكر أيضا رؤيته في الجحيم كيلوباترا ملكة مصر، وهيلانة زوجة مينلاوس ملك اسبرطة، وباريس ابن ملك طروادة وهذان -أي هيلانه وباريس- في الجحيم لأن باريس خطف هيلانة ومن ساعده في هذا الخطف هي فينوس آلهة الجمال لأنه حكم بتفوقها على يونون ومنيرفا في الجمال فعاونته بسبب هذا الحكم، وكان ذلك سبب حرب طروادة كما ذكر في الاساطير القديمة.

وهذه لوحة لبيتر روبنز يصور باريس وهو يصدر حكمه لفينوس:


وهذه عدة لوحات تصور مشهد اختطاف هيلانة:



 أما القصة الأبرز في هذه الأنشودة، والشخصان اللذان كان يتوق للقائهما دانتي في هذه الحلقة من الجحيم هما فرنتشسكا دا ريميني وباولو مالاتيستا. هذان العاشقان كان لقصتهما الأثر الكبير في ذلك العصر وقصتهما باختصار أن فرانشسكا وعدت بالزواج بباولو، وهو شاب قوي وجميل ولكنها خدعت وزوجت لأخيه القبيح والمشوه جانتشوتو، فبقي قلبها معلق بباولو وكانت في غياب زوجها تلتقي بأخيه باولو يقرأ لها القصص، وفي مرة قرأ لها قصة فيها عاشقان وعندما وصلا للحظة القبلة أخذهما الموقف وقبلها وكان حينها الزوج يرقبهما من خلف ستار، وهذا ما تصوره لوحة يوجين ديلاكروا هذه:


 وفي تلك اللحظة دخل الزوج مندفعا لقتل أخيه، وعندما حاولت فرانشسكا أن تحميه اخترقها السيف ونفذ إلى صدر باولو وبذلك قتلا في لحظة واحدة. هذان العاشقان صور دانتي عقابهما بشكل مختلف فلم تفرقهما الريح العاصفة في الجحيم ولم تضربهما ببعض. ولهذه القصة ولهذا المشهد أعمال فنية كثيرة تصوره هذا عمل دانتي غابرييل يصور لحظة القراءة والقبلة:


وعمل فني آخر يصور دانتي وفرجيليو وهما يرقبان العاشقين وروحهما تطير وملازمان لبعضهما بعكس من صورهم دانتي في هذه الحلقة من الجحيم:


 عمل آخر لغوستاف دوريه وهو يصور فرجيليو ودانتي من بعيد وتأخذ روح العاشقين منتصف اللوحة والجزء الأكبر منها وتظهر منطقة اختراق السيف على جسد فرانشسكا وباولو


 

وأخيراً في هذا العمل يصور اري تشفر دانتي ساقطاً على الأرض من شدة تأثره بقصتهما:




 وهذا ما يصفه دانتي في آخر الأنشودة الخامسة ويقول:

 

 بينما كانت إحدى الروحين تنطق بهذه الكلمات، بكت الأخرى بمرارة، حتى تهالكت من الأسى كأني أموت. وهويت كام يهوي جسم ميت. 

 

يتبع ...





لمتابعة منصات حرم الجمال ( انقر هنا )




تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

رواية خرفان المولى (نظرة تحليلية للبنية النفسية للنص)

توأم الروح