الإنسان .. وعبثية الحياة

 

"الانسان لا بد أن يتعود على الوحدة حتى لا ينسى حقيقته الأولى التي ولد بها ولا بد أن يرحل معها.. فنحن نولد وحدنا ونموت أيضاً وحدنا. و بين الولادة والموت لا ينبغي للإنسان أن ينسى حقيقة أنه وحيد."
 
الإنسان مصاب بفوبيا أن يفقد شعوراً يصنع سعادته، إما من خلال فقد أناس يحبهم، أو أشياء يهوى اقتناءها، أو ممارسات يصنع بها يومه، ومع ذلك ما زال يقتني أكثر، ويحب بعمق أكبر، يرى الهاوية ويتجه نحوها.
أسرى مشاعرنا، وقلقنا على من نحب، أو قلقنا على مستقبلنا، نتعلق بذكرياتنا ونشد بذلك وثاق قيدنا. لذلك عندما قرأت هذا الاقتباس لفاروق جويدة احتفيت به لأيام، ورأيت أنه يعبر عن الحقيقة التي يجب أن تكون! لعل فكرة التوق إلى الاعتياد على الوحدة أو القدرة على فك الارتباط عما يثبط الروح أو يكبلها كامنه في اللاوعي لذلك كان للاقتباس وقعُه، وكأنه بلسماً لامس شيئاً من فوبيا الخواء الذي قد يصيب الإنسان في أي مرحلة من مراحل حياته والتي يجب أن يكون مستعداً لها. فكلما حرر الإنسان روحه ومشاعره مما يقيدها به كلما كان تهشم روحه عند الفقد أقل.
اقرأ في هذه المدونة "الحب سم قاتل " انقر هنا
 
ظهر لي في هذا الاقتباس إبتداءً، وجوب الاعتياد على الوحدة والفقد، أو بمعنى آخر يجب أن أن تتبلد هذه المشاعر حتى ننجو من جفاء حبيب، أو قسوة ابن، أو فقد ثمين، وأن هذا ما يُفترض أن نسعى نحوه، ولكن السؤال، ما هو الواقع؟
 
تأملت هذا الاقتباس من بعد احتفائي به فوجدت أنه مجرد كلمات غير قابلة للتطبيق، فانتازيا، بل لعله مجرد أمنيات. كيف للإنسان أن يعتاد الوحدة؟ نعم قد يموت الإنسان وحيداً ولكنه لا يولد كذلك! الإنسان لولا تعلق النطفة بجدار البويضة لما كان، الإنسان لولا حبل سري يتعلق به حتى لحظة استنشاقه الحياة لما كان، ثم احتضان أمه له هو أول ما يكون. الإنسان والتعلق متلازمان وإن لم نشعر بذلك، أو إن أنكرنا ذلك. نتعلق بمن نحبهم، نخشى جفاءهم، نقاوم المسافات الفاصلة بيننا وبينهم، ونحزن على فقدهم.
 
اقرأ في هذه المدونة " توأم الروح " انقر هنا
 
الإنسان في رحلة حياته واقع في شبكة محكمة ومعقدة من المشاعر لا يستطيع الفرار منها. بغض النظر عن سلبية هذه المشاعر أو إيجابيتها، بغض النظر عما تعكسه في حياته من  سعادة أو حزن، هناك مشاعر نشعر بها تؤثر في حواسنا، وأفكارنا، ومسيرة حياتنا، وإن أنكرنا ذلك. نستطيع الهرب بأجسادنا نعم، تعتاد أجسادنا المسافات نعم، ولكن ليس لأرواحنا من هذا الاعتياد نصيب. قد نحاول أن نوازن مشاعرنا، أن نعتاد بقدر ولكن ليس أكثر.
 أما الاعتياد الذي ينصحنا به جويدة والذي أرى أنه يمهد للعبثية التي ينصحنا ألبير كامو باعتناقها لنواجه قسوة الحياة والتي تظهر أبرز معالمها في ردة فعل بطل روايته الغريب إذ يقول "اليوم، ماتت أمي. أو ربما ماتت أمس، لست أدري. لقد تلقيت برقية من المأوى تقول: (والدتكم توفيت. الدفن غداً. أخلص تعازينا). لم أفهم من ذلك شيئاً. ربما توفيت أمس."* الوصول لهذا المستوى من خواء الروح والتبلد كَحَل من أجل الشعور بالسلام الروحي ما هو إلا أمنية، وحلم  لن يتحقق، خارطة طريق نحو السراب.
_________________________________________
* الغريب - ألبير كامو - ترجمة يارا شعاع - دار نينوى.
 
 
لمتابعة قناة حرم الجمال يوتيوب ( أنقر هنا ) 
لمتابعة قناة حرم الجمال تيليجرام ( انقر هنا)
بودكاست حرم الجمال (ساوند كلاود) ( انقر هنا)

بودكاست حرم الجمال (أپل بودكاست) ( انقر هنا)

 
 

تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

توأم الروح

تاريخ المكتبات (٣) الحضارات القديمة وأوراق البردي