عندما تكون الحياة ليست على مقاسك!

 


 

أنتونيو غارثيا آنخل، روائي كولومبي شاب وأحد أهم الروائيين الشباب في أمريكا اللاتينية يقدم لنا من خلال روايته "تداع" صورة حية ومفصلة لمدينته التي قضى فيها نصف حياته، مدينة بوغوتا عاصمة كولومبيا، هذه المدينة الحية، المزدحمة مثلت البطل الرئيسي لهذا النص الذي يجمع بين صخب حياة المدينة والعولمة والحداثة، ورتابة حياة الانسان المتماهي مع دوامة العيش فيها.

 

تبدأ الرواية بحدث غرائبي للشاب خورخه، فعند بداية يومه المعتاد واستعداده للذهاب إلى عمله يتفاجأ بأن مقاس حذائه لا يناسبه، فقد ضاق حذاؤه، مما اضطره للبحث عن شراء حذاء يناسب مقاسه الجديد، ومن لحظة خروجه نبدأ استكشاف بوغوتا بشوارعها وأزقتها، مواصلاتها، محلاتها، مطاعمها وبأدق تفاصيلها. حصل خورخه على حذائه الجديد وسعى لزيارة الطبيب حتى يعرف سبب هذا التغير، باحثاً عن علاج. وبعد هذا الحدث يبدأ السرد المتقافز بجمله القصيرة يصور رتابة حياة الانسان، وروتين الموظف من الطبقة الكادحة في هذه المدينة فيومه يبدأ بالذهاب إلى العمل، ممارسة عمله، أخذ وقت للراحة يقضيه في تناول وجبة خفيفة ومشاهدة ما يعرض على التلفاز، بغض النظر عما هو معروض، فلم أو برنامج حواري، أو أخبار؛ لا يهم، المهم انقضاء الوقت ثم متابعة العمل، ثم الانصراف إلى المنزل، النوم، الاستيقاظ، والذهاب إلى العمل، وهكذا دواليك، دائرة لا تنتهي من تعامله مع الحالات الطارئة للمرضى بحكم عمله في شركة تأمين صحي، يقرر من خلالها الحالة التي تغطيها شركة التأمين وما هي الحالة التي لا تغطيها، روتين لا ينتهي، فلا يوجد يوم يخلو من المرض، أو المرضى. ولا يتخلل هذه الحياة الرتيبة لخورخه إلا زيارة والده في دار العجزة في نهاية كل أسبوع للحديث معه، أو أخذه في جولة في أرجاء المدينة يحاول أن يستذكر من خلالها هذا الأب المسن لحظات من شبابه، من خلال أزقة المدينة أو مطاعمها الشعبية، وبذلك تكون المدينة حاضرة في كل أحداث الرواية، شريان يتخلل السرد ويغذيه. 

 

من خلال هذا الحدث الغريب الذي ابتدأت به الرواية، ومن خلال هذا السرد نرى الحياة بصورة كافكاوية، حياة رتيبة مثّل فيها مقاس الحذاء الظروف المفاجئة التي تظهر للانسان في حياته، يحاول أن يتعامل معها يحاول أن يفهم أسبابها، أن يجد لها حلاً ولكن مع الوقت يتكيف معها تتحول من حدث مفاجيء إلى روتين حياة أو أمر مُسلّم به فكل ما فعله خورخه هو أنه استسلم إلى قدميه، على الرغم من أنه كان لا يزال لا يستطيع التعود على فكرة أنهما أصبحتا كبيرتين من دون سبب. 

 

في ذهاب خورخه وإيابه، في رؤيته للموظفين، لهذا القطيع الذي يمثل براغي عجلة لا تتوقف عن الدوران نرى ثقل الحياة، الجهد في السعي نحو كسب لقمة العيش فيها. ومن خلال طبيعة عمله كموظف تأمين صحي نرى ما وصل إليه الإنسان في ظل العولمة والرأس مالية من طبقية، فعلاجك يختلف بمستوى تأمينك الصحي، ومرضك وصحتك سلعة يقرر خطورتها من عدمه مقدار ما تدفعه. أما في وقت راحة خورخه التي يقضيها في تناول وجبته الخفيفة ومشاهدة التلفاز يصور لنا أنتونيو آنخل من خلال المشاهد الكثيرة المنقولة من خلال التلفاز، حقيقة المحتوى الإعلامي، مدى تفاهته، فكل ما فيه لا يصلح إلا لتزجية الوقت لا أكثر. وفي زيارته لوالده في حواراته معه، نرى في هذا المسن تداعي الحياة، المراحل الأخيرة فيها، ومن بعد كل هذا الكد والاجتهاد ستنتهي الحياة على جسم يتداعى وذاكرة تتداعى.

 

 وبذلك صورت هذه الرواية في صفحاتها القليلة الجانب المظلم من الحياة، حياة من يكد لعيشه، من يسلبه الروتين الحياة الحقيقية على أمل كسب حياة أفضل ومستوى اجتماعي أعلى إلى أن يجد أن كل ما كان يخطط له سراب وتبخر، فكل ما في هذه الحياة حتماً يوما ما سيتداعى. وهذا مصداقاً لقول بورخيس "إن كنتم لا تعرفون، فالحياة لحظات وحسب؛ لا تدع الحاضر يفلت هارباً". 

-----------------------------------

تداعٍ | انتونيو غارثيا آنخيل | ترجمة: إشراق عبدالعال | دار المدى ٢٠٢٠




لمتابعة قناة حرم الجمال (يوتيوب) انقر هنا 

لمتابعة قناة حرم الجمال (تيليجرام) انقر هنا

بودكاست حرم الجمال (ساوند كلاود) ( انقر هنا)

بودكاست حرم الجمال (أپل بودكاست) ( انقر هنا) 




 

 


تعليقات

إرسال تعليق

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

توأم الروح

تاريخ المكتبات (٣) الحضارات القديمة وأوراق البردي