سيدة الفساتين - ماريا دوينياس

 

"من آثار الحبّ المجنون والجارف أنَّه يُفقِد الإنسانَ حواسَّه الَّتي تُمكّنه من استيعاب ما يدور حوله، فتتلاشى تمامًا القدرةُ على الإحساسِ يما يجري وإدراكِ ما يقع. يُرغمك ذلك الحبُّ على أن تنقطع إلى شخصٍ واحدٍ فحسب، يعزلك عن باقي العالم، ويُدخلك داخل درعٍ، يُبقيك على هامش وقائعَ أخرى، وإن كانت تدور بالقرب منك".

هذا الاقتباس هو ما قد يعكس مضمون رواية سيدة الفساتين لماريا دوينياس والتي ترجمت إلى أكثر من ٢٥ لغة وبيع منها أكثر من عشرين مليون نسخة. والصادرة عن دار ميسكلياني بترجمة عبداللطيف البازي وشريفة الدحروش. 

رواية تقوم على الحب، على حب الذات، والحبيب، والوطن، وهذا الحب إما أن يأخذنا إلى بر الأمان وإما إلى الهلاك. رواية سيدة الفساتين هي رواية "سيرا" الفتاة البسيطة والتي تعمل في ورشة خياطة مع والدتها في ثلاثينيات القرن العشرين، فتتغير أحداث حياتها بطريقة دراماتيكية لتأخذنا في رحلة إنسانية، تاريخية لإسبانيا في ذلك الزمن، وإلى المغرب التي كانت تحت الحماية الاسبانية آنذاك. 


اقرأ في هذه المدونة "جورج أورويل ١٩٨٤" انقر هنا


تتغير أحداث حياة سيرا بسبب الحب، فأولاً بسبب حبها لذاتها ورغبتها في حياة جامحة تتمناها فوقعت في حب شخص اعتقدت أنه سيهبها تلك الحياة، فتركت خطيبها ووالدتها وحياتها من أجله لتكتشف أنها خدعت بشخص نرجسي دمر حياتها وهجرها بعد أن انتقل بها من اسبانيا إلى المغرب تحت وعود وآمال بالثراء والحياة الرغيدة.  تقول سيرا "تحولت إلى ظل يتبعه، إلى كتلة تكاد تتسم بالخرس الدائم، فلا أهتم بشيء سوى أن أشعر به إلى جانبي، وأكون تابعة له، وامتداداً لطيفاً لشخصيته الطاغية الحضور". فليس كل حب يرتقي بأرواحنا، فمن الحب ما يجرنا إلى الهاوية وهذا شكل من أشكال هذا الحب.

بعد هذا الانتقال وبعد سلسلة طويلة من الأحداث والتغيرات التي لن أفصل فيها حتى لا أسرق منكم متعة قراءة هذه الرواية، يأخذها الحب أيضاً إلى طريق آخر، ولكن الآن هو حبها لوطنها اسبانيا لتتعامل مع المخابرات البريطانية كجاسوسة تخدم مصالح بريطانيا العظمى حتى تجنب بلدها اسبانيا الخوض في الحرب العالمية في صف ألمانيا. 

فعلى جزئين من هذه الرواية وبسرد ماتع ومتدفق تأخذنا ماريا برحلة مع أشخاص أثروا في تاريخ اسبانيا الحديث، وتطلعنا على أحداث التقلبات السياسية في اسبانيا من انطلاق الحرب الأهلية فيها وصعود الجنرال فرانكو وانطلاقه من المغرب لسدة الحكم في اسبانيا، لتعيش اسبانيا أصعب فترة لها تحت حكم ديكتاتوري مرعب وأحداث عالمية مشتعلة.


اقرأ في هذه المدونة " كيف يمكن للفن أن يغير حياتك " انقر هنا 


الرواية تأخذنا إلى شعور انساني كوني ألا وهو الخوف، عدم الشعور بالأمان وماذا قد يغير فينا كبشر، فبعد علاقتها السامة بشخص نرجسي خان ثقتها، وبعد أحداث الحرب الأهلية وما أدت إليه من جوع وقتل ودمار، وما قد تفعله أفعال الحرب من التفرقة بين الشخص ومن يحب، وما تؤدي إليه من انعدام الثقة في الآخرين فكل ما تفكر فيه وما تقوم به قد يكون ضدك، إذا لم يعجب القائمين على السلطة. كل هذه الأحداث في حياتها جعلت منها انسانه مختلفة تظهر غير ما تبطن، فهذا النوع من الأحداث يشكلنا ويجعلنا نتقن اختيار القناع الذي نظهر به أمام الناس، وقد يصل إلى تشوهنا إذا لم نكن واعين بهذا الشعور. 

الرواية تغلب عليها الأصوات النسائية فتظهر حياة المرأة في اسبانيا قبل وبعد الحرب الأهلية وكيف انتقلت المرأة من التمكين والمكانة قبل الحرب وكيف أصبحت أثناء وبعد هذه الحرب، فظروف الحرب، الخوف من الاعتقالات والإعدامات وغيره من مظاهر البطش تنهك أي مجتمع والنساء جزء من هذا المجتمع الذي شاءت ظروفه أن تعمق مظاهر الخوف بالضغط بشكل أكبر على مكامن الضعف فينا كبشر. 

سيدة الفساتين رواية رومانسية تسرد قصة الحب والخيانة، رواية سياسية وتاريخية تسرد لك خفايا الحرب والأفكار الاستعمارية، رواية درامية، تسرد لك التغيير الإنساني ودور الأحداث والمحيط في هذا التغيير وكيف تتخلق قدرات الانسان من أجل النجاة واثبات الهوية في ظل هذه الأحداث. وقد تمت معالجة أحداثها في مسلسل يحمل نفس عنوان الرواية وقد حقق نجاحا كبيراً عند عرضه عام ٢٠١٣ 




لمتابعة منصات حرم الجمال (انقر هنا)

 

تعليقات

الأكثر قراءة

رامبرانت .. سيد الضوء والظلال

توأم الروح