كيف يمكن للفن أن يغير حياتك؟
"المشاعر تقود إلى السلوكيات، فما أن ندرك ما نشعر به حتى نستطيع الاقدام على خيارات حول ما نريد أن نفعله، لكن لو أنكرنا تلك المشاعر فغالباً ما ينتهي بنا الأمر ونحن نتجه إلى الاتجاه الخطأ، نضيع مرة أخرى في بحر الفوضى."
ماهي المشاعر؟ سؤال يظهر وكأنه سؤال الإجابة عليه بسيطة ولكن هذا السؤال كان متداولاً لقرون، وأورد عالم النفس روبرت بلوتشيك اثنين وعشرين تعريفاً مختلفا للمشاعر، لكن هنا سأورد لكم تعريف الدكتور راندولف ام نيس؛ والذي ذكره في كتاب أسباب وجيهة للمشاعر السيئة، فيقول: من المنظور التطوري المشاعر حالات خاصة تعدل الفسيولوجيا، والإدراك، والخبرة الذاتية، وتعبيرات الوجه، والسلوك بطرق تزيد من القدرة على الوفاء بالتحديات التكيفية للمواقف التي تكررت على مدار التاريخ التطوري للنوع. نرى من هذا التعريف أن تكيفنا مع الحياة نابع من مشاعرنا، وتأثيرها يصل لكل مافينا بل هي التي تساعدنا على الحياة. فنلاحظ تأثيرها على أجسامنا وعلى وظائفنا الحيوية بقوله تعدل الفسيولوجيا، فكأنه يقول لنا في هذا التعريف أن مشاعر الغضب، الحزن، الخوف، هذه المشاعر التي قد نصنفها أنها مشاعر سلبية ونحاول التخلص منها هي أيضاً مفيدة في حياتنا. يقول: وظيفة الحزن هي تقوية الروابط الاجتماعية، وإبطاء للنشاط العقلي والحركي وإقناع الذات بوجود مشكلة، فتخيل لو أن الحزن لم يكن موجوداً في حياتنا، كيف نستطيع التعبير عن تأثرنا بفقدان أحد؟ كيف نستطيع أن نعرف بوجود مشكلة في حياتنا إذا لم نشعر بهذا الاحساس؟ أما الغضب فإنه يقلل العدوان لدى الآخرين! فكيف للغضب أن يقلل هذا العدوان؟ يقول بأن الغضب يحشد الطاقة ويزيد تدفق الدم إلى العضلات، إذاً يزيد من قدرتنا على الحد من التدخلات أو الهجوم علينا، وهكذا نجد لكل نوع من المشاعر عدة وظائف تتطور حتى تساعدنا على التكيف، ومشاعرنا السلبية عندما ننظر إليها من هذا المنظور نستطيع أن نتفهمها، وتفهمنا لهذه المشاعر يساعدنا على التعبير عنها، فالتعبير عن مشاعرنا نحن كبشر، أو أن نتفهم مشاعر الآخرين جداً مهم في حياتنا.
اقرأ في هذه المدونة " عبادة المشاعر" انقر هنا
تتم عملية فهم المشاعر والتعبير عنها بطرق مختلفة وعندما يفشل الإنسان في ذلك قد يصل لطريق مسدود لا يتكيف فيه مع الحياة، وفي أسوأ الأحوال قد ينهي حياته أو يكون ضررا وخطراً بالغاً على الآخرين. ومن أعمق ما يعبر به الانسان عن مشاعره هو الفن إما منتجاً له أو متذوقاً لما يلامس مشاعره ويجد ذاته فيه ومن هذه الفنون هي الفنون البصرية التي سأخذكم معي في رحلة نقرأ، ونحاول أن نفهم من خلالها هذه المشاعر.
يمكن للفنون البصرية أن تتواصل معنا بطرق لا تستطيع الكلمات أن تفعلها. هنا تكمن أهمية الفن، يمكن أن يكون الفن استنارة لعقولنا، ومبهجاً لأرواحنا، وقد يكون متعة وتسلية وفوق كل ذلك يغنينا أيضاً بالمعلومات. من خلال الفن يمكن أن يقدم لنا الفنان رؤاه ويمكن أن يشاركنا ذكرياته أو قد يقدم أفكاراً جديدة، الفن قد يكون علاجاً، نعم يكون علاجاً. أكيد أنكم تتساءلون كيف؟ أنا أجيبكم، الفن قد يساعد في حل المشكلات العاطفية أو السلوكية وهذا علاج، ويصل لدرجة أنه يساعد في الحالات المتعلقة بالصحة العقلية مثل الخرف لأنه كما ذكر الدكتور راندولف المشاعر تؤثر على الادراك، والفن ملهم للمشاعر ومحفز لها. للفن تأثيرات يصفها الأطباء، كوصفة طبية، فأطباء علم النفس ينصحون بزيارة المتاحف والمعارض الفنية لعلاج حالات مثل التوتر، والإرهاق، والشعور بالوحدة، وكذلك لتخفيف أعراض الأمراض الجسدية، لأنه كثير من الأعراض الجسدية هي نتيجة لتراكم المشاعر السيئة في داخلنا، فبمجرد أن ننفس عن هذه المشاعر تذهب هذه الأعراض.
كل هذا التأثير للفن يؤكد أن الفن يجب أن يكون جزءاً أساسياً من الحياة والمجتمع. إعطاء وقت لتأمل الفن، إعطاء وقت لفهمه وإدراك أثره وهذا ما أحاول أن أسعى إليه دوماً في حرم الجمال. في السنوات الأولى من عمر حرم الجمال قدمت سلسلة عن أصول زيارة المتاحف.
لمتابعة سلسلة "دليل زيارة المتاحف " انقر هنا
إن الفن لا يقتصر على التحفيز البصري، أو القدرة على الشفاء كما ذكرت، ولكن الفن عنده القدرة على منح الأمل، وتغيير أو إعادة تأسيس المعتقدات والمواقف، وتسهيل التأمل الذاتي، الفن قد يذكرنا بالقيم التي ربما نسيناها. فالفن الذي يكون موضوعه المجتمع، كثيراً ما يُظهر لنا وجهات نظر جديدة، ويعبر عن الحقائق والصعوبات داخل مجتمعاتنا؛ وكثيراً ما يلفت الانتباه إلى ما قد يكون قد تم تجاهله أو أصبح غير مرئياً. ومنذ وقت مبكر من تاريخ علم النفس أو علم السلوك الذي بدأ في أواخر القرن التاسع عشر، اعترف بالفن كوسيلة مهمة لاكتشاف المشاعر التي نمر بها والسلوك الناتج عنها فنستطيع التعبير وتوجيهها بشكل أفضل. أدرك الفنانون هذه القوى العلاجية للفن، فاستخدمه العديد منهم لمساعدتهم على التعامل مع التحديات الشخصية. وتحدثوا كثيراً عن ذلك. كتب إدفارد مونك: "لقد عانيت طوال حياتي من شعور عميق بالقلق حاولت التعبير عنه في فني".
و جورجيا أوكيف تقول: "لقد وجدت أنني أستطيع أن أقول أشياءً بالألوان والأشكال لم أستطع أن أقولها بأي طريقة أخرى؛ أشياءً لم أجد الكلمات المناسبة لوصفها". وتقول لويز نيفيلسون: "فجأة، رأيت بصيصَ ضوء.... ثم رأيت أشكالًا في الضوء. فأدركت أنه لا يوجد ظلام، وأنه في الظلام، سيكون هناك دائمًا ضوء". تأملت تريسي إمين في ذاتها وقالت: "إن الفنَّ فقط هو الذي حملني للوصول إلى هذه المرحلة، وأعطاني الثقة و الايمان بوجودي".
هذا التأثير للفن على مشاعرنا ليس وهماً، بل تم اثباته طبياً، فقد كشفت تجربة أجراها عالم الأعصاب البريطاني البروفيسور سمير زكي، الذي درس كيف يعالج الدماغ ميزات مثل اللون والحركة، عندما ننظر إلى الفن. وقد قامت المسوحات بقراءة أدمغة الأفراد أثناء عرض لوحات لفنانين مثل كلود مونيه، ورامبرانت، وليوناردو دافنشي، وبول سيزان وغيرهم. فكانت النتيجة كما أوضح البروفيسور زكي " أنه عندما ننظر إلى الفن هناك نشاط قوي في ذلك الجزء من الدماغ المرتبط بالمتعة، ويؤكد، كان ردُّ الفعلِ فوريًا. يقول: زاد تدفق الدم للوحة جميلة تمامًا كما زاد عندما تنظر إلى شخص تُحِبُّه، ويوضح قائلاً: لم ندرك مدى قوة تأثير الفن على الدماغ حتى أجرينا هذه الدراسات. ووجدت الدراسة أن النظر إلى الفن يمكن أن يساعد في خفض تركيز هرمون التوتر الكورتيزول في الجسم، ويزيد من مستويات هرمون المتعة الدوبامين.
وأظهرت دراسة أخرى، في عام ٢٠١٦، أن النظر إلى صور المناظر الطبيعية، وخاصة المناظر البحرية، يمكن أن يخفض التوتر، وبالتالي يساعد في منع الإجهاد المزمن والأمراض المرتبطة بالتوتر.
يمكن للفن أن يساعدنا بطرق لا حصر لها. فمن خلال محاولتنا لفهم القليل من فكرة اللوحة، أو نوايا الفنان من خلالها، أو التركيز على تقنياته، هذا يمكننا أن نتعلم كيفية التعامل بشكل أفضل مع مشاعرنا، يزيد من قدرتنا على تبني وجهات نظر جديدة وتعلم كيفية التعامل مع مواقف وقناعات معينة بشكل أكثر إيجابية. حتى الفن المزعج يمكن أن يثير طرقًا بديلة للتفكير ويمكِّننا من إدارة مشاعرنا بطرق مختلفة.
لمتابعة سلسلة "الفن والانسان" انقر هنا
بعد هذه المقدمة الطويلة عن أهمية المشاعر وعن علاقة الفن بها سيكون هدفي من هذه السلسلة القصيرة هو اظهار فكرة قد تكون بسيطة أو مهملة، وهي أن الفن قد يفيد الفنان ويفيد حتى متذوقيه ومشاهديه نفسياً وعاطفياً.
فالفنانين نقلوا من خلال فنهم الأفكار والمشاعر والأحلام والقصص والخبرات وهنا سأستعرض بعض المشاعر التي عبر عنها الفنانون من خلال فنهم، كمشاعر الغضب، والخوف والقلق أو حتى الحزن والوحدة أو المشاعر الايجابية كالسعادة والأمل. لعل هذه القراءة ورؤية هذه المشاعر من خلال اللوحات تلهمنا طريقة أو فكرة مختلفة للتعبير عن مشاعرنا. وهذه احدى إيجابيات الفن، أن نستخدم الفن لفهم أنفسنا أو اكتشاف طرق للتعبير عن أنفسنا.
للاستماع للنص على منصات البودكاست انقر هنا
تعليقات
إرسال تعليق