تاريخ المكتبات (٢) .. مكتبة الملك آشور بانيبال، المكتبة الملكية.



تعود أهمية مكتبة آشور بانيبال إلى أنها كانت المحاولة الأولى من نوعها في العهد القديم، والتي تطمح إلى جمع وتقديم المعرفة بشكل نظامي. سلك الملك آشوربانيبال هذا الطريق لتحقيق هذا الهدف بروح عالية وطاقة فعالة في البحث، في طلب واستجلاب كل ما يثري ويدعم المعرفة ويحقق له هذا الهدف الذي ابتدأه أسلافه ليكوّن مكتبة عظيمة في قصره الملكي، ويظهر سبب تواجدها في القصر الملكي ما ذكره ألبرتو مانغويل في كتابه "المكتبة في الليل" أن الملك آشور بانيبال كتب مكان عنوان كل لوح "قصر آشور بانيبال، ملك العالم، ملك الآشوريين، الذي يؤمن بآشور وننليل، والذي أعطاه نابو تاشميتو آذاناً صاغية، والذي وُهب نفاذ البصيرة... حكمة نابو، إشارات الكتابة، مهما كانت أعدادها المبتكرة، قد كتبتها على الألواح، ورتبت الألواح في سلاسل، وجمعتها، ولأجل تأملاتي وتلاواتي الملكية وضعتها في قصري".

اُختلف على الكم الذي احتوت عليه المكتبة من الألواح، إلا أن الأرجح أنها احتوت على ما يقارب ألف وخمسمائة مجموعة من الألواح الصلصالية، وكل مجموعة احتوت على العديد من الألواح ،فأصبح مجموع ما تحتويه المكتبة يقرب من خمسة وعشرين ألف لوح صلصالي مكتوب بالخط المسماري الآشوري وهي تمثل مواضيع مختلفة في شتى نواحي المعرفة الانسانية، فكانت مصدراً لمعرفة أصول العلوم المختلفة في مجالات الطب، الفلك، وتقنيات الري والهندسة وغيرها وبالرغم من أن مجموعة ألواح مكتبة آشوربانيبال كانت إحدى أهم المجموعات المكتشفة عن العصر القديم ،إلا أن مصادر جمع هذه الألواح مجهولة عند علماء الآثار.

اكتشف ألواح مكتبة آشور بانيبال مصادفة الرحالة والمستكشف البريطاني أوستن هنري لايارد (١٨١٧-١٨٩٤) وتابع التنقيب والبحث من بعده مساعده هرمز رسّام (١٨٢٦-١٩١٠) الآشوري الموصلي الأصل، البريطاني الجنسية، وقد وجدت هذه الألواح تحت حطام سلسلة من غرف التخزين القريبة من مدخل قصر آشوربانيبال، فلم يكن واضحاً لعلماء الآثارهل أن الألواح كانت متواجدة في هذه الغرف، أم أنها نُقلت إليها ولكن يرجح من قراءة العلماء لعدة اكتشافات من تلك الحقبة الزمنية ومن هذه المجموعة أن النظام السائد في حضارة بلاد الرافدين كان حفظ الألواح في غرف منفصلة، ويتم إحضارها عند الحاجة لقراءتها في مكان آخر مخصص للقراءة، ومن هذا النظام اتضح عدم اهتمام حضارة بلاد الرافدين بظاهر البناء أو بهرجته في ما يخص تخزين الألواح ،وإنما الإهتمام الأعظم كان  يتجه الى المحتوى والقيمة المعرفية لهذه الألواح، حيث احتوت على الكثير مما يخص حضارة العراق القديم لعصور مختلفة للحضارة السومرية والأكدية والآشورية. من كنوز هذه المكتبة المعرفية ملحمة قصة الخلق (إينوما إليش) المدوَّنة بالأحرف المسمارية على سبعة ألواح تتطرّق إلى سبعة أجيالٍ حول خلق الكون والبشر والتي يقال أنها تتطابق في بعض أحداثها مع الأيام السبعة في سفر التكوين- التوراة، وتم اكتشافها عام ١٨٤٩م.

 ومن ضمن أشهر ألواح هذه المكتبة أيضاً ألواح ملحمة جلجامش الإثنا عشر والتي تم اكتشافها عام ١٨٥٣م، وتم حفظها في المتحف البريطاني، وتعد ملحمة جلجامش أقدم قصة كتبها الإنسان، وكتبت بخط مسماري باللغة الأكادية وحملت توقيعاً باسم "شين ئيقي ئونيني"، وكان تذييل النصوص بالتواقيع عادة متعارف عليها في بلاد الرافدين، حيث أن هذه التواقيع كانت تمكن القارئ من ربط النص بشخص معين بالذات، وبالتالي يستطيع القارئ إقامة علاقة بينه وبين هذا الشخص المُتَخَيَّل (المؤلف). "هذه الإلتفاتة الفنية المكتشفة في بداية عهد جميع الآداب المكتوبة، مازال متعارفاً عليها حتى يومنا هذا بعد انقضاء آلاف السنين" بفضل حضارة وثقافة بلاد الرافدين. 

وبذلك فإن مكتبة الملك آشور بانيبال كنز معرفي إنساني ضخم لا يقدر بثمن، وتكون بذلك قد سبقت مكتبة الإسكندرية الذائعة الصيت في هذا المجال العلمي والأدبي بما يقارب الثلاثمائة عام. 

 يُذكر أن الملك آشوربانيبال (٦٨٥-٦٢٦ ق.م) والملقب بملك العالم، هو ابن الملك آسرحدون بن الملك سنحاريب والذي اتخذ من نينوى عاصمة للإمبراطورية الآشورية. كان أحد ملوك العراق القديم، وقد جمع بين القوة وحب المعرفة والشغف بها، وها هو مشروعه وهدفه الأكبر مكتبة أشور بانيبال تحفظ له هذه المكانة وتخلده في عالم المعرفة.


*الصورة لبعض الألواح المكتشفة في مكتبة آشور بانيبال


تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

توأم الروح

تاريخ المكتبات (٣) الحضارات القديمة وأوراق البردي