آرثر شوبنهاور الفيلسوف الألماني الشهير،  الذي وصفه تولستوي بقوله "عبقري بامتياز بين الرجال"، "واعتبره ريتشارد فاغنر (هبة من سماء)؛ ويقول نيتشه عندما قرأ له (تركت ذلك العبقري الكئيب يعمل بحيوية في عقلي) فهذا الرجل الواقعي السوداوي له الأثر الكبير في الخارطة الفكرية الغربية وفي هذه الحلقة سأتحدث إليكم عن فلسفة شوبنهاور نحو المعاناة والألم، ضرورتها في حياتنا ولماذا يجب أن نتقبلها ونتعايش معها لتصبح حياتنا أفضل، طالما أننا نعي ونعرف تمام المعرفة أن هذه الحياة لا تخلو من الألم، الألم بأنواعه النفسي والجسدي نحن نؤمن بأن الانسان خُلق في كبد لكن كيف لنا ان نتعايش ونستفيد من ذلك. 

 

يبدو من الغريب أن نجد من يتحدث عن إيجابية الألم، يبدو أنه موضوع يشوبه شيء من التناقض ولكن من خلال فلسفة شوبنهاور التشاؤمية التي يرى من خلالها أن البشر مثل الخراف في الحقل التي تلهو تحت عين الجزار الذي يختار واحداً تلو الآخر ليكون ضحيته فالألم والمعاناة قادمان قادمان لا محالة لذلك يجب أن نتعامل معهما.           فماذا يقول شوبنهاور عن ذلك؟ 


اقرأ في هذه المدونة "حرم الجمال..قصة ورسالة"  انقر هنا 

 

يقول "من السخف أن نرى ونشعر بكمية الألم الموجودة في هذا العالم ونعتقد بعد ذلك أن لا فائدة منها" هذه هي البذرة التي دعته للتأمل وفلسفة الألم والمعاناة. لذلك فهو ينتقد كل فلسفة تحاول أن تثبت أن الألم والمعاناة في الحياة عبارة عن شيء سلبي، بل على العكس يرى أنها شيء إيجابي بل يصل لدرجة أنه يقول أن المعاناة هي الهدف المباشر والأساسي للحياة، فإن وجودنا بالكامل يخفق في تحقيق هدفه بدون الألم والمعاناة. كيف يكون ذلك؟ 

 

الحياة هذه مبنية على الأضداد بمعنى لن يكون هناك ليل ان لم يكن هناك نهار فوجود شيء يستدعي وجود نقيضه وهذا ينطبق من وجهة نظر شوبنهاور على الألم والمعاناة، فلن يكون هناك سعادة وصحة ولذة بدون الألم والمعاناة، بل يرى أن الشيء السلبي في هذه العملية هو اللذة أو السعادة. كيف ذلك؟


يقول بأن الانسان إذا اعتاد اللذة فإن أقل ألم يواجهه سيمثل له معاناة كبيرة، اذن اعتياد اللذة هنا شيء سلبي في الحياة، لكن المعاناة شيء إيجابي لأنها بقدر ما تزيد فعند زوالها ستكون السعادة كبيرة لذلك لولا شدة المعاناة لما نال الانسان تلك السعادة العظيمة. لأنه ليس هناك سعادة تدوم أو معاناة تدوم وكما نعرف ونؤمن بذلك نحن بأنه لا يغلب عسر يسرين. إذن يرى أن مقياس السعادة ليس السعادة نفسها بل بالعكس تقاس بقياس الألم الذي سبقها فالألم هو من يحدد مقدار هذه السعادة.


اقرأ في هذه المدونة "عندما تكون الحياة ليست على مقاسك! انقر هنا 


يبرهن شوبنهاور على سلبية  اللذة من خلال فلسفته بأن السعي نحو اللذة والسعادة يخلق للإنسان آلامه لذلك هي سلبية، فكل ما سعى الانسان على ترفه الذاتي سواء جسدياً بتوفير أفضل المأكولات والمشروبات والدفء بأغلى الملابس وبخلق أشياء أكثر يعتمد عليها حتى يرى أنها من ضروريات حياته كل ما زاد ذلك من آلامه عندما يفقدها، ويدخل في ذلك أيضاً الترف النفسي عبر مظاهر الشعور بالشرف والسمعة وخلق صورة، وآراء الناس حوله، يستزيد الانسان من ذلك حتى أنه يدخل في معاناة عند فقد ولو شيء بسيط منها.

 

ولعل ما يصادق ويدعم هذا الرأي هو كتاب قلق السعي إلى المكانة لآلان دو بوتون والذي يتحدث فيه عن القلق الذي خلقه الانسان لنفسه في سعيه نحو المكانة ومن الأسباب التي دعت الانسان نحو هذا السعي إلى المكانة هي أسباب تتعلق بالأحاسيس والمشاعر وهذا يصادق على كلام شوبنهاور في دور مشاعرنا كبشر في خلق آلامنا وسعادتنا. ومن الأسباب التي ذكرها آلان دو هو الحب، سعينا لأن نحب وأن نحب. من أجل هذا السبب نرى أن الانسان يسعى لأشياء أخرى توصله لهذا الهدف، السعي نحو الثروة والمكانة العلمية أو السلطة كل ذلك من أجل أن نحصل على الحب أو الاهتمام، وحتى إن كان زائف. نريد أن يكون حضورنا ملاحظ، آراؤنا ينصت إليها، وعيوبنا تقابل بالتسامح وهكذا. وهناك من يقول أنا لا أهتم بذلك ولكن لو تأملنا لماذا يسبب لنا غياب الاهتمام والحب المعاناة والألم فنحن البشر بطبيعتنا ندع تقييمات الآخرين تلعب دوراً حاسماً في الطريقة التي نرى بها أنفسنا لذلك إحساسنا بالهوية أسير في قبضة من نعيش بينهم. 

 

لذلك يحاول شوبنهاور في فلسفته أن يحارب هذا التطلع الذي يزيد من ألم الانسان فهو يعرف هذا الشعور والسعادة التي يحققها وبالتالي الألم الذي سيتحقق في غيابه، لذلك يقول أن أسعد انسان هو من استطاع احترام نفسه بإخلاص مهما حدث، يعني أن نحاول أن نتجنب الحصول الاهتمام والاحترام من الآخر لأنك لن تجد هذا الآخر دوماً، لكن احترامك لذاتك سيعطيك الإحساس بالرضا وقد يؤدي إلى احترام الآخر لك بالضرورة. 

 

يدعو شوبنهاور لاستخدام الوعي والمشاعر والتفكير والتأمل كأداة لصالحنا يجب أن لا نستخدمها لزيادة آلامنا فيقول أولاً يجب أن نعي أن  فكرة أن نعيش طول العمر سعداء هي فكرة خاطئة ويقول أن هذه الفكرة هي التي بالعكس تسبب تعاسة الانسان في شبابه لأن النشوء على هذه الفكرة يجعلنا في انتظار الحياة وما ستعطيه لنا من حياة أبدية وما هذا الا مجرد وهم بل كان الأولى أن يتم تنشئة الشباب على تخليص أذهانهم من هذه الفكرة وتنشئتهم على الواقعية وتحكيم العقل والايمان بأن الحياة لا تخلو من المعاناة. 


يرى شوبنهاور أننا كبشر نمتلك ميزة عظيمة تعطينا الراحة من معاناة الحياة، وهي تذوق الفنون من مسرح وموسيقى ورسم، لأننا في هذه الأعمال نفرغ آلامنا فما نصادفه من الأعمال الفنية والفلسفية هو نسخ موضوعية من آلامنا ضمن أصوات ولغة وصور. يقول أن الفنانين يقدمون تجاربنا بتأثير وذكاء أكبر مما باستطاعتنا تقديمه أو التعبير عنه، يفسرون وضعنا لنا، وبذلك يعينونا على أن نكون أقل عزلة وأقل عرضة للاضطراب فالفن يحول الألم إلى معرفة بحسب شوبنهاور وهذه ميزة العقل التي يجب أن نستخدمها لصالحنا.

 

أرجو أن تكون هذه الفلسفة قدمت العزاء لشيء من آلامنا التي لا تخلو الحياة منها ولا أعني أن نتوقف عن التطلع أو الطموح أو نستسلم بسلبية ولكن كل تطلعاتنا هي شهية كأي شهية أخرى الافراط فيها قد يكون ممرضاً. لذلك يجب أولاً أن نؤمن بوجود المعاناة وهذا شيء لا بد منه، وثانياً أن المعاناة لا تدوم كما أن الفرح لا يدوم، إيماننا بهذا الواقع يجعلنا نتعامل مع المعاناة والسعادة بعقلانية، وتوازن فلا نبتئس كل البؤس وقت المعاناة وكأننا لم نجد في الحياة سعادة أبداً،  ولا نفرح كل الفرح وقت الرخاء للحد الذي يخرجنا عن سياق انسانيتنا ويؤدي إلى موت مشاعرنا نحو من يعاني من حولنا.



لمتابعة قناة حرم الجمال (يوتيوب) انقر هنا 

لمتابعة قناة حرم الجمال (تيليجرام) انقر هنا 
بودكاست حرم الجمال انقر هنا 
ساوند كلاود حرم الجمال انقر هنا 






تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

رواية خرفان المولى (نظرة تحليلية للبنية النفسية للنص)

توأم الروح