تأملات.. في أيام الحِداد




ليلة يوم الجمعة، الثالث من شهر ربيع الآخر للعام السادس والثلاثين بعد الأربعمائة بعد الألف من الهجرة النبوية الموافق الثالث و العشرون من شهر يناير للعام الخامس عشر بعد الألفين من الميلاد أُعلن ببالغ الأسى خبر وفاة الوالد، القائد، القدوة و الرمز الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود عليه رحمة الله، منذ تلك اللحظة وأنا أرقب متأملاً ردات الفعل الناتجة عن هذا المصاب الجلل الذي لم أتوقع إلا أن تكون الحزن والدعاء لروح الفقيد بالرحمة والغفران، وإذ بي أجد من يخوض عند إعلان خبر وفاته بتوافه الأمور وتناقل الإشاعات التي لا تسمن ولا تغني من جوع. (مات قبل يوم، لا، مات قبل يومين، لا.. لا.. مات قبل اسبوع)، ثم ماذا؟ ماذا تريدون؟  قد تم الإعلان الرسمي وانتهى الأمر الذي فيه تختصمون، بماذا ينفع أو في ماذا يضر ما تخوضون فيه؟ بأي عقل وأي منطق تتحدثون؟ ولكنها السذاجة وفقر الأدب وخواء العقول.

رأينا من صيروا قنواتهم منابر لإستقبال التهاني والتبريكات، من خرجوا للشوارع ابتهاجاً، ومنهم من أنزلوا أئمتهم من المنابر لأنهم ترحموا على روح الفقيد، وسمعنا عمن امتنع عن صلاة الغائب على روح الفقيد و كأنه لم يسهر على تأمين حجّهم وعمرتهم، كأنه لم يبذل قصارى جهده على التوسعة عليهم لأداء فرائضهم بعد فضل الله ومنّه وكرمه بكل يسر وسهولة ممكنة. لكنها الخسة والدناءة فهؤلاء ليسوا كالأنعام بل هم أضل. ولكن كما قيل:

لا تـأسفـن على غـدر الزمـان لطالـما     رقـصت على جثـث الأســود كـلاب
لا تحسبن برقصها تعلو على اسيادها     تبقى الأسود أسوداً والكلاب كلاب
تمـوت الأسـود فـي الغـابـات جـوعــا     ولــحــم الضـــأن تــأكــله الكــلاب
وذو جـهـل قـــد يـنـام علـى حـــريـر      وذوعــلـــم مــفــارشــه الــتــراب

لاحظت من سخّر نفسه مناصحاً في مواقع التواصل الإجتماعي (لا تضعوا صور الفقيد فالصور عذاب له). نجد أن معرّف هذا الناصح الأمين على مواقع التواصل الإجتماعي تحمل صورة الملك فيصل أو فهد عليهم رحمة الله. فهذا هو التفسير الحقيقي والمثال العملي للإمّعة. هؤلاء لا أسمع، لا أرى ولكن اتكلم. أكرر كالببغاء ما أسمع. لا بصر ولا بصيرة. قال صلى الله عليه وسلم (( أغدُ عالماً أو متعلماً و لا تكونن إمعة )).

أما أولائك الذين لم تمض ساعات على دفن جثمان الفقيد إلا وقد هبّوا راجين، ممنين النفس بإجازة يوم ليس حزناً على الفقيد أو تأثراً بفراقه. إنما ليضاعفوا ساعات سباتهم، ليفرحوا ويبتهجوا وكأن الذي مات لا يعنيهم، كأنه لم يكن يوماً قائدهم الفذ، كأنه لم يكن يوماً محباً لهم عطوفاً عليهم كآبائهم، كأنه لم تصل إليهم أو تؤثر على حياتهم وحياة أبنائهم فضائل قراراته ومنجزاته. لكنها الأنانية، اللاإنسانية، التبلد الحسي والفقر العاطفي، ظلمات بعضها فوق بعض. إنا لله و إنا اليه راجعون. اللهم عافنا مما ابتليتهم به.


إن هذه الظواهر تشي بالكثير، ظواهر تحتاج إلى دراسة نفسية، ثقافية وإجتماعية لندرك المدى الذي تقهقر إليه العقل الجمعي، الإدراك الحسي، التفاعل العاطفي والأدب الخلقي في المجتمع.

تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

رواية خرفان المولى (نظرة تحليلية للبنية النفسية للنص)

باهَبَل مكة Multiverse - رجاء عالم