طائر الثبغطر .. قراءة نقدية




طائر الثبغطر للأستاذ الدكتور عبدالله الفيفي عن الدار العربية للعلوم ناشرون، رواية تناقش المعاني و الصور النمطية و تأثيرها على الصعيد الشخصي الفردي و بالتالي الإجتماعي و الثقافي في مجتمع ما. نعلم تمام العلم أن المعاني من صنع الإنسان نفسه يخلقها و يطلقها على فكرة معينة أو عادة إجتماعية معينة إستناداً على أسطورة شعبية أو مثل شعبي مرتبط بتلك الثقافة، و بدخول عاملي التواتر و المدة الزمنية الممتدة لأجيال يصبح هذا المعنى لصيق تلك الفكرة أو العادة فيصبح الإنسان مؤمناً بها و كأنها قرآن منزل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. اتخذ الدكتور عبدالله الفيفي منطقته فيفا الواقعة جنوب السعودية مدخلاً لطرح هذا المعنى و إحدى مسارح أحداث هذه الرواية، فكانت الفصول السبع الأُوَل من الرواية هي القاعدة التي بُنيت عليها هذه الفكرة، فاستعرض بلغته الساحرة الراقية هذه المنطقة من جميع النواحي، استعرض جغرافيتها و طبيعتها، عادات أهلها و تقاليدهم، استعرض صورة المسكن و المأكل و المشرب، استعرض الأمثال و الأساطير الشعبية و ذلك تأكيداً لأهمية و مكانة هذه الأساطير و الأمثال المتواترة على تكوين المخيال الثقافي الشعبي و تكوين المعاني و الصور النمطية للمجتمعات.


وليد موسى ذلك الفتى الناشيء في هذه البيئة القروية إنتقل إلى المدينة ثم أمريكا و تنقل في أوروبا مما أدى لحدوث صدمة ثقافية حضارية لهذا الفتى أثارت الكثير من التساؤلات و المقارنات على جميع الأصعدة الإجتماعية  والدينية. عاش رحلة من الشك في كل شيء و اليأس من كل شي، ولولا بقية من إيمان و عقل لانحرفت به السبل أيما انحراف. فعند عودته للبلاد و إلى قريته جابه أهل قريته بأفكاره التي اكتسبها و ناقشهم محاولاً تغيير الصور النمطية التي نشؤوا عليها فحاربوه و خلقوا حوله الأساطير و الإشاعات و اتهموه بالكفر تارة و الجنون تارة أخرى، فما كان من أحد أبناء قريته التي نشأ على هذه الأساطير و الإشاعات إلا محاولة الحديث مع وليد موسى و أخذ الحقيقة من مصدرها. 

التقنية السردية اعتمدت على نقل هذا الشاب الباحث عن حقيقة وليد موسى لقصته عبر بعض المقابلات التي أجراها معه و عبر مخطوطة مذكراته التي سلمها له وليد موسى. فيقول (مما وجدته في كراسه ما يحتاج أحياناً إلى التعليق أو التفصيل أو الشرح، مستعيناً في ذلك بما عرفته من حكاياته شفهيّا من خلال أحاديثي معه). أجد أن هذه التقنية لا يمكن لها أن تصف أو تشرح الشعور الحقيقي الدقيق لصاحب القصة كما لو كانت تقنية معتمدة على  ضمير المتكلم، فصاحب القصة يعبر عن نفسه بشكل أبلغ و أصدق و أكثر واقعية و منطقية. مثلاً: قوله (يا لحواس وليد و ما كانت تأنس به لحضور امرأةٍ أو مرورها، إذ تعلن عنه الروائح و الحلي! لقد كان حضوراً فاتناً، لوناً  و صوتاً و رائحة، يتفتح ذهن الطفل على إدراك حضور الأنوثة من خلاله). كيف لهذه التقنية أن تكون منطقية في سرد مثل هذا الشعور و الإحساس به؟ 

أما من ناحية بناء البعد النفسي للشخصية، وليد موسى ذلك الفتى المثقف الشديد الملاحظة المتقد الذكاء ذو الشخصية القوية التي لا ترضى الخنوع فرغم محاولات تدجينه من قبيلته و مجتمعه فإنهم لم يفلحوا في تكسير رأسه أو إيقافه عن مراده و هدفه، أجد أن هذا البناء النفسي اختل تارة في البعد العقلي المقارن عند وليد موسى فعلى سبيل المثال لا الحصر، حينما لاحظ ثقافة عدم الإختلاط بين الرجل و المرأة في مجتمعه حيث أن هذه الثقافة لم تقِ المجتمع، بل زادته شذوذاً و انحرافاً و زادت حوادث الشذوذ الجنسي و الطلاق و ما إلى ذلك فقارن هذه الملاحظة بملاحظة من بيئته القروية فيقول (ذكور الضأن أو المعز حين تعزل عن إناثها يجن جنونها، فيَسْفَد بعضها بعضاً، و ربما سفد الذكر أي شيء من حجر أو شجر).

الرجل و المرأة (الإنسان)، الضأن و المعز (الحيوان)، هل يستويان؟ لا سبيل لمقارنة الإنسان بعقله المفترض أنه متحكم بشهواته بالحيوان الذي يعيش لشهوته و حسب بلا عقل. فالخلل هنا أنه حكم على مجتمعه بالمجتمع المريض استناداً على هذه الملاحظة و ما أدت إليه من مقارنات عقلية. أما الخلل الآخر في البناء النفسي لشخصية وليد موسى الذي واجه قبيلته كاملة و تحداهم برغم كل المآسي التي أدت إليه هذه المواجهات نجد أنه حينما اكتشف عملية اختلاس في شركة عمل بها فاتفق كبار المسؤولين على إلصاق بعض التهم إليه لإبعاده، فعند مواجهته للجنة التحقيق المكونة من هؤلاء المسؤولين دار الحوار التالي :

المحققون: - هاه أين وصلت؟ ماذا قلت؟ 
وليد: - ماذا أقول ؟ ما المطلوب مني الآن ؟ 
المحققون: - أيوة كدا.. برافو عليك. المطلوب أن توقع على هذه الورقة.

كانت هذه الورقة تحمل اعترافاً بما نسب إليه زوراً و بهتاناً. وقعها بدون أي نقاش أو معارضة. فكيف تلبسه هذا الخنوع و الخضوع؟ فنجد هنا اختلال من جانبين نفسيين هما الذكاء و العادات و الطباع الانسانية حيث أنها صفات غير مكتسبة بل تُخلْق مع الإنسان ولا مجال لخبوها فجأة بدون ظروف و مؤثرات خارجية قاهرة.

طائر الثبغطر، رواية ناقشت الكثير من التساؤلات التي قد تخطر في بال الكثير لكنه من المحرم التساؤل عنها علناً أو الاحتجاج عليها، ناقشت الكثير من التناقضات الإجتماعية و الفقهية التي لو أعطى الإنسان لعقله الفرصة لوهلة لرآها بوضوح، و نجد فيها أن الناس ليس بالضرورة يكذبون في ما يقولون، لكن آفتهم أنهم يقولون كل ما يسمعون، فالبحث عن الحقيقة بنزاهة و حياد  ثقافة يجب أن نؤمن بافتقارنا لها حتى يتسنى لنا الإلتفات لها و تربية النشء عليها. قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ 



*سورة الحجرات آية ٦. 

تعليقات

  1. @husam_rezeig فخورين بقراآتك و كتاباتك الأدبية @bachiraahmed

    ردحذف
  2. اهنئك على كتابتك الادبية النقدية ماشاء الله... قرأت الكتاب من خلال سطورك.. بوركت جهودك .. وادعوك للكتابة العلمية في المجال الطبي فأمثالك نحتاجهم حقاً.

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

رواية خرفان المولى (نظرة تحليلية للبنية النفسية للنص)

باهَبَل مكة Multiverse - رجاء عالم