مع ناجي .. ومعها
كتاب للدكتور
غازي القصيبي يتحدث فيه عن شعر الشاعر الطبيب إبراهيم ناجي، وإفراد الدكتور غازي
القصيبي لشعر إبراهيم ناجي كتاباً، وتوجيه الخطاب فيه إلى زهرته المستحيلة كما نوه في إهداء
الكتاب، والتي يُقال أنه يقصد بها ابنته، يدل على حب الدكتورغازي لشعر إبراهيم
ناجي ويدل أيضاً على مكانة هذا الشاعر على ساحة الشعر العربي، وبالطبع لا يخفى سر
فنون الشعر على شاعر مثله.
ابتدأ الكتاب
بجدلية تعريف الشعر وأنه المعروف الذي يصعب وصفه، حتى عرّفه بتعريفه المتواضع على
حد وصفه، الشعر: "قفز لحظة من الحياة .. في نغم". ثم يؤكد أن
الشعر، حلاوته، لذته، الإستمتاع به والتجلي بمعانيه لا يستند إلا إلى معيار الشخص
ذاته فيقول: (لا تقرأي، يا حلوتي سوى الشعر الذي تجدين نفسك فيه، وأرمي ماعداه). (دعي
أعظم الشعراء لأعظم الأكاديميين، واتركي أمراء الشعر لملوك التنظير. وتمسكي بالشعر
القريب من قلبك). وبهذا نستدل لماذا إبراهيم ناجي دون سواه.
الكتاب وكأنه عبارة
عن دراسة نقدية لشعر إبراهيم ناجي، ولكن
الدكتور غازي القصيبي أخرج هذا النص من القالب النقدي التقليدي وأبعده عن جفاف هذا
النوع من الكتابات وثقلها على القاريء بأسلوبه الأدبي الماتع، بأسلوبه الذي لا
يخلو من سخرية وخفة ظل لا تزيدك إلا متعة، فتتابع القراءة حتى تنهي صفحات الكتاب
الثمانين بدون أن تشعر. يأخذ بيدك متنقلاً بين أبيات القصائد، شارحاً تارة،
وناقداً تارة أخرى. يسرد قصة هذه القصيدة أو تلك، يغوص في المعاني والتصويرات، والأثر النفسي الذي تعكسه تلك الأبيات وتحت أي الظروف النفسية كُتبت. يعلمك مصطلحات النقد والشعر، وكل ذلك بدون
عناء وكأنه كما يُقال يمارس معك تقنية (التعليم بالترفيه).
إبراهيم ناجي الذي يصفه الدكتور غازي القصيبي بقوله: (لم يكن ناجي
عاشقاً سعيداً.. العشاق السعداء لايكتبون أشعاراً خالدة). هو صاحب الأطلال، القصيدة الملحمية الطويلة والتي تتكون من (١٢٥) بيتاً والتي غنت السيدة أم كلثوم بعض أبياتها مغيرة مطلعها
بمساعدة الشاعر أحمد رامي من :
يا فؤادي .. رحم
الله الهوى
كان صرحاً من
خيال فهوى
إلى :
يا فؤادي لاتسل
أين الهوى
كان صرحاً من
خيال فهوى
وَمِمَّا لا
يعرفه الكثير عن الأطلال، أن أم كلثوم أضافت إليها سبعة أبيات من قصيدة أخرى يقال
أنها لإبراهيم ناجي نفسه ابتداءً من قولها:
هل رأى الحب
سكارى مثلنا
كم بنينا من
خيال حولنا
إلى
وإذا الدنيا كما
نعرفها
وإذا الأحباب كلٌّ
في طريق
ولذلك عبر
الدكتور غازي القصيبي عن هذا التبديل والتغيير بقوله : (وقد عبثت أم كلثوم
بالقصيدة عبثاً مريعاً تعاقب عليه القوانين وتعاقب عليه الأخلاق. إلا أنها جعلت
القصيدة المغمورة قصيدة مشهورة. وتلك قضية أخرى.)
ومن الجدير
بالذكر أن أم كلثوم رحمها الله غنت الأطلال لأول مرة في العام ١٩٦٥م، وتم تسجيلها
وإصدارها عام ١٩٦٦م، أي بعد وفاة إبراهيم ناجي بثلاثة عشر عاماً. رحم الله ابراهيم
ناجي، فموت الشعراء مصاب جلل. بموت أحدهم تتصدّع صروح الجَمَال، ولا يصف هذا المعنى الذي يتملكني، ولم أجد ما يفسره بعمق إلا ما قاله
الكاتب والشاعر عبدالله ثابت " إذا مات شاعر في مكان ما من هذا الوجود، ماتت
في مكان ما آخر شجرة، وتساقطت أوراقها قبيل الفجر. إذا مات شاعر انطفأت نجمة،
وتخاصم حبيبان، وضاع خاتم، وأصبحت الدنيا أقل...
إذا مات شاعر أُوصدت نافذة، وبكت خلفها
الفتاة،والسقف والوسادة، إذا مات شاعر تنسى القهوة المواعيد، ويعتذر الطل من الزهرة،
ولا يلتفت الصبح إلى وجه الحمامة، والحمامة لا تقف على طرف السور، ويمر الغروب
متثاقلاً ومقطباً حاجبيه.. وإذا مات شاعرٌ غصّ بنغماته الناي، ويرجع الشتاء أشد
كآبة....
هذا الوصف بهذا
الإبداع اللفظي وبهذا الشعور وبكل مايحمله من الأسى أكد لي المعنى الذي رمى إليه
الفيلسوف شوبنهاور بأن المبدعين دوماً يقدمون تجاربنا بتأثير وذكاء أكبر مما
باستطاعتنا تقديمه، إنهم يفسرون وضعنا لنا. وهذا أسمي ما تنشده الروح من الإبداع في كل مجالاته وبكل تجلياته.
رحم الله شاعرنا الفذ الدكتور ابراهيم ناجي
ردحذف