الفن.. شغف الحياة
الفن ذلك النتاج الإبداعي للإنسان وإحدى أوجه الثقافة الإنسانية الممتدة، ولإرتباطه الوثيق بالجمال كان مصطلح الفنون الجميلة والذي ظهر في عام ١٧٦٧الإشارة الواضحة إلى أن الفنون ترتبط بالجمال والحس المرهف اللازم لتذوقها. وإن كان متعلقاً بالرسم والفنون المرئية عادة لكنه شمل الكثير من الموسيقى، الغناء، التمثيل أو النحت. أما الفنان فهو كل شخص مرتبط بأي نشاط تتضمنه هذه الحزمة الواسعة من النشاطات المتعلقة بإذكاء الروح والحس بداخلها. ولكن السؤال هنا لماذا هذا التوق والشغف بالفنون؟ شغف النفس البشرية بالفنون ما هو إلا ابتغاء جمالاً نرى فيه ما يرضينا أكثر من الحقائق الواقعة التي حولنا، لأننا لا نجد في الطبيعة ما يرضينا ولا نجد في الصناعة دائماً ما تشتهيه نفوسنا من الجمال فلذلك نتوق دوما إلى الزينة، إلى منظر طبيعي نجد أننا بدون أي إرادة منا نقول كم هو مريح، كم هو جميل، فالفنون هي الصِّلة بين الإنسان والطبيعة ولأننا لا نرضى برؤية الطبيعة ساذجة مصمتة فالجمال سر من أسرار الحياة. وهنا سؤال آخر يفرض ذاته، من يقيم الجمال؟ ما الذي يجعلنا نقول إن هذا الشيء جميل وذاك غير جميل؟ الجواب هو البصيرة، البصيرة والتي هي أوسع وأشمل من مجرد البصر هي قوة خفية وموهبة وهبها الله للإنسان لإدراك الحقائق والجوانب الخفية من الأشياء وتحتاج إلى قوة الملاحظة والقدرة على التمييز بين الموضوعات والنفوذ إلى الفوارق الدقيقة بين المتشابهات في المواضيع، البشر جميعاً يتذوقون الجمال ولكن بمستويات متفاوتة تدخل فيها عوامل المجتمع والوسط المحيط والتربية الفنية التي تزيد من نور البصيرة أو تضعفه، فالفن ظاهرة من ظواهر المجتمع، فإذا كان هذا المجتمع مختلاً لم يسلم الفن من الخلل.
بدأ البشر في ممارسة الفنون كما يقال منذ ثلاثين ألف سنة، وكان الرسم يتكوّن من أشكال الحيوانات وعلامات تجريديّة رمزية فوق جدران الكهوف، وتعتبر هذه الأعمال من فنّ العصر الباليوثي ذلك العصر الحجري القديم. استمر هذا التوق للجمال وكان للفنون فسحة من الحرية والانتشار حتى عند الإغريق لأن الديانات الوثنية تعتمد على الأصنام وتزيينها، بناء المعابد الباذخة وزخرفتها واستمرت الفنون في ازدهار حتى بداية انتشار المسيحية فاجتهد المسيحيون في تحطيم هذه المعابد والأوثان فبدأ زمن الانحطاط وبدأ فن بيزنطي (الفن الكنسي) يكتفي برسم القديسين والعذراء والسيد المسيح فليس هناك أكثر من تلك الهالات المنيرة حول الرأس والتذهيب فقط، ولم يكن للألوان والتفاصيل أدنى اعتبار، إلى أن جاء أول من مسح هذه الوصمة وهو القديس فرانسيس لأنه جمع بين حب الطبيعة والإيمان بالدِّين فبذلك بدأ تنقيح هذا الفن الكنسي على يد جوني تشني (١٢٤٠-١٣٠٢م) ويعرف باسم ( تشيمابو) فبالرغم من أنه كان لا يعدو على حمى الفن البيزنطي إلا أنه أعطى هذا النوع من الفن لمحة إنسانية فيها ملامح العطف والحب، ولأنه من فلورنسا فقد بدأ به ما يسمى فنياً مدرسة فلورنسا، خلفه في ريادتها تلميذه جوتو دي بوندوني (١٢٦٦-١٣٣٧م) فكان هو الفاصل بين تقاليد بيزنطة والنهضة. بقيت الكنيسة هي المسيطرة وراعية الفنون حتى القرن الخامس عشر فتم الإنفصال بين الدين والفن فكان ألسندرو دي ماريانو الملقب ببوتتشيلي (١٤٤٥-١٥١٠م) رمز هذه الحقبة وهذا الانفصال. توالت التطورات والمدارس الفنية عبر العصور متنقلة بين أرجاء أوروبا إلى أن ازدهر الفن في فرنسا في القرن السابع عشر واتخذ مسارين مسار ديموقراطي يتصل بالفلمنكيين والهولنديين ويتمثل في رسم أحوال الطبقات الفقيرة الى المتوسطة، ومسار أرستقراطي يتمثل في رسم أحوال وحياة العظماء والملوك وتزيين القصور وهذا المسار يتصل بالإيطاليين. تأسست الأكاديمية الفرنسية عام ١٦٤٨م بغرض الإرتقاء بالفن فسارت في مسار معاكس اختنقت به الفنون لأنه لم يُسمح لغير المنتسبين لهذه الأكاديمية بعرض أعمالهم إلى أن جاءت الثورة الفرنسية ١٧٨٩وألغت هذا التقييد فظهر خلال الثورة ومابعدها ما يعرف بالقديميون الذين يرسمون أساطير الإغريق وآلهة الرومان ثم ظهر (الخياليون) وهم من يستمدون موضوعاتهم من حوادث العصور الوسطى ومن الشعر والقصص، ثم (التقريريون) الذين يرسمون الأشياء كما هي بلا زيادة أو نقصان وبأدق التفاصيل، ثم ظهر بعد ذلك (التأثريون) وهو من يرسمون الأثر الناتج عن حالة أو منظر معين. هكذا توالت المدارس والنزعات المختلفة للفن إلى أن تم إختراع الآلة الفوتوغرافية فكان لها أثر غير متوقع في تطور الرسم ودخول أفكار تعد مجنونة مقارنة بما سبقها كردة فعل ضد هذه الآلة فقالوا: (إذا كانت الآلة الفوتوغرافية تصور الجسم، فعلى الرسام أن يصور الفكرة) فنشأت مدارس عدة منها المدرسة الوحشية، التكعيبية أو السريالية وما إلى ذلك في عصر الفن الحديث وما بعد الحداثة. وما زال الإنسان تواق إلى الجمال المتمثل بالفنون وبكل أشكاله التي يعبر بها عن ذاته متطلعا بها دوماً إلى سمو الروح وارتقائها.
*اللوحة: القيلولة. للفنان الفرنسي بول غوغان (١٨٤٨-١٩٠٣م)
تعليقات
إرسال تعليق