رواية خرفان المولى (نظرة تحليلية للبنية النفسية للنص)


تصور رواية "خرفان المولى"  معاناة الجزائر خلال العشرية السوداء في تسعينيات القرن المنصرم إبان بداية الحرب بين الحكومة وجماعة الجبهة الإسلامية للإنقاذ والموالين لها. تدور أحداث الرواية في تلكم القرية الوادعة (غشيمات) بكل ما تزخر به من بؤس وفقر، (هادئة، كسولة ولا تراودها فكرة التحول إلى قرية كبيرة). صور ياسمينة خضرا بؤسها من خلال بيوتها، أكواخ بواجهات خربة داخلها جدران قبيحة لا تجد إلا ستائر ناحلة اللون تواري قبحها، حتى طال ذلك البؤس طبيعتها فكانت أشجارها (ذابلة على هيئة متسولين تتمايل تحت المزاج المتقلب للريح). لعل هذا البؤس انعكس على سكانها فأصبحوا انهزاميين فمع كل هذا البؤس، لديهم سهولة الإبتسامة وصدق المعاملة، طموحهم التنافس على مكان في المقهى، يشكون في كل شيء لا يعذبهم. عجيب كيف لمثل هؤلاء أن يظهر منهم قتلة لا تأخذهم رأفة لا بالمرأة ولا بالطفل أو الرضيع.
تتبعت أحداث هذه الرواية معنياً بتتبع بناء الحالة النفسية والذهنية لأبرز الشخوص في النص حيث أن البناء الذهني والنفسي لشخوص الرواية تبعاً للمكان الذي أجاد المؤلف تصوير بؤسه وتبعاً للزمن المضطرب الذي تدور فيه الأحداث، هو عامل مكمل يعطي الصورة النهائية جودتها ووضوحها.
في الرواية شخصية الشيخ عباس عيش الذي كان خروجه من السجن بداية الحدث، فهو شاب في الخامسة والعشرين، خطيب مفوه منذ مراهقته، تضج المنابر بخطبه الرنانة ضد المفسدين وأعوان السلطة وتبعاً لهذه العوامل كان لهذا الشاب تلك الهالة والتقديس من أهالي القرية فها هم يصفونه بقولهم (الشيخ عباس علامة ربانية إن لم يكن يحمل رسالة سماوية فإنه ليس إلا أجدر خادم لها)، (الشيخ عباس روح لا تصل إليه يد ولا تمسك به سلسلة)، هنا نقرأ ذهنية مجتمعاتنا التي أدت بنا إلى خلق طواغيتنا بأيدينا ليحكموا قبضتهم علينا، لذلك نجد الشيخ عباس (يجلس على عرشه، متمسكا بهيبته، يتابع قطيعه وهو يرعى في سكينة نادرة). هنا صورة جلية لما يؤكده علماء النفس أنه عند اتساع السلطة والقوة يصبح الشخص مؤمناً أكثر بأنه لا يحتاج إلى الآخرين، فالسلطة في يده مما يسهل عليه ازدراء الآخرين واستعبادهم. هكذا كوّن عباس عيش الجبهة الإسلامية للانقاذ و أصبح أميرها إلى أن تم اعتقاله مرة أخرى. 
قادة هلال، ابن قايد سابق مستبد، انتزعت منه السلطة وأسقط إلى منزلة الدهماء أتعبه الصراع واستولى عليه اليأس، فرضي بوظيفة معلم مدرسة لا تنفك أن تنمو بداخله الضغينة يوماً بعد يوم،إلى أن زاد على نفسية الضغينة تلك جرعة من البؤس والإحباط بعد أن تزوج صديقه علال سيدهم من الفتاة التي يحبها، فمسّه الضّر وهيّجه الغضب حتى أنه تمنى الموت، واستناداً إلى قراءات عدة فهذه هي اللحظة المناسبة لضم مثل هؤلاء إلى مصاف الجماعات المتطرفة، لأن هذا الإنسان المحبط المهدور يرى أن كل ما حوله فسد فيتوق إلى الخلاص من هذه النفس بالإنخراط في كيان جديد يسمع فيه ما يريد، يجد فيه من يتعاطف مع خيباته، يبحث عن شيء جديد يؤمن به تعويضاً عن الإيمان الذي فقده في نفسه وفي من حوله، فكان له ذلك وسعى إلى الذهاب مجاهداً في أفغانستان لا من فرط الإيمان ولكن من فرط اليأس والإحباط. فعاد من هناك بصورة البطل المجاهد فنصب أميراً للجماعة خلفاً للشيخ عباس لما أضافته هالة الجهاد والبطولة إلى هذه الشخصية المهدورة.
تاج عصمان بن عيسى ذلك الهرم الذي ظل تحت وطأة الذاكرة الجماعية التي تنضح بالضغينة لمن كان في عداد الخونة، حيث أن الجميع لايذكر عيسى إلا بالخائن المتعاون مع العدو الفرنسي مستحقاً كل بؤس وشقاء وعار هو وذريته، فنشأ تاج مهملاً لا يستطيع الدفاع عن نفسه لا يعرف معنى الحب ،فكل ما حوله مدثر بالضغينة مشوهاً بعار أبيه. هكذا وجد تحت لواء الجماعة غطاء لكل هذا التشوه الذي أصابه مفرغاً من خلاله هذه الضغينة على هذا المجتمع بكل ما أوتي من وحشية، فأزاح قادة هلال ونصب نفسه أميراً للجماعة فزادت وتيرة القتل والتنكيل.
زان، ذلك القزم الذي كان يمثل العين النافذة للمتطرفين داخل القرية لا تفوته لا شاردة ولا واردة فكان  كما أراد كطائر العقاب الذي يرى ويسمع ما يدور في الآفاق بحدة وبصبر كاسر ليشي بالمعارضين والمشككين في الجماعة، معوضاً نقصه الذي طالما عذبه ليتحرر من عار الضآلة وسخرية البشر ليثبت لنفسه ولغيره أنه يستطيع أن يكون ذلك الحذق الذي لم يفطنوا له، الذي يعرف كيف ينتهز الفرص ويقف في صف الرابحين.
هاهنا نلمس إجادة بناء العمق النفسي والذهني في بناء شخوص الرواية فلكل منهم ماضٍ يفسر الحاضر وينبيء بالمستقبل، فكل شخصية اتضحت أسباب انضمامها ودوافعها بعمق ومن خلال السرد بدون تعقيد او اي نوع من اللامنطقية، فلا تجد شخصية تشترك في القتل أو التعذيب بلا سبب واضح ، وهذا يدل على عمل موصول وجهد مبذول في العناية بجميع أركان السرد، يتضح من خلالها العمق الذي وصل إليه ياسمينة خضرا في سبر أغوار هؤلاء الأفراد وهذه الجماعات، حيث  أن هذه الجماعات المتطرفة وإن تغيرت الأسماء والعناصر والشعارات وإن تغيرت الأزمنة والأماكن تجد في ثنايا هذا النص ما نراه إلى اليوم من الصفات المشتركة بينهم، إنهم يتبعون منطقاً وأسلوباً واحداً، دائماً ما يزعمون (أن الأمم الكبرى تقوم على مجازر الدم، الدم غذاؤها كما الزبل غذاء الدهماء)، يؤمنون أنهم هم الحل الأوحد وبيدهم الحل، لسان حالهم (أشفق على هذه الأمة التائهة). يتلقفون المحبطين، التائهين أو المهمشين يفرقون بينهم وبين أهليهم لتفكيك روابط الأسرة حتى لا يجد أحد منهم طريقاً للرجوع، نجد أن الصديق يقتل صديقه والإبن يقتل أباه، ينفخون في كير الكره والضغينة فبنارها تستوي حياتهم، ليس للحب في قاموسهم الوضيع مكان فنجد الشيخ عباس يقرع قادة هلال قائلاً (إن الحب سلوك ذليل، وظيفة دنيئة)، (تبدأ مأساة البشر حينما تحظى امرأة بحب الرجال..)، يرون أن المأساة هنا، لا في قتل الشيوخ والأطفال. يعادون كل ما هو إنساني من تراث وجمال، لا يرون أي شيء من الجمال والعمق فهاهم هنا في الجزائر (يخربون الموقع التاريخي بوحشية لا نظير لها) وهاهم في أفغانستان والعراق يدمرون التراث التاريخي والإنساني، «يجب على كتابنا أن ينتظموا في الطابور العسكري، وكل من يتوقف في الطريق لقطف الزهور يعد فارّا من الخدمة، هذه الكلمات التي قالها كونستانتين سايموتوف تعكس أفكار المتطرف و كلماته عبر العصور»*. يكرهون كل ما يمت بالفكر من صلة فلا للقراءة ولا للكتاب في حياتهم البائسة مكان لسان حالهم ما قاله تاج عصمان في ثنايا السرد (إن الكتب ألد أعداء الإنسان)، (أنا اكره الكتب..) يتساءل، (ماذا يعرف هؤلاء الكتبة عن الحياة، ماذا يعرفون عن الناس؟). نجدهم محرومين من العقل يعادون كل ما يحفز العقل ويثيره، يؤمنون أن الكون خاضع للقانون الذي يؤمنون به ألا وهو قانون القتل والدمار قانون الدم، وبعد كل ذلك يتحدثون عن الله وبإسم الله بعد أن (قتلوا الله في داخلهم).
هذه الرواية من حيث البناء وعمق شخوصها وإمكانية اسقاطها على كل الجماعات المتطرفة دينياً من تلك السنوات إلى اليوم، هي جواب لمن اعتقد ولو للحظة أن للدين في هذا التطرف والدمار اللاإنساني سبب ، فيها جواب ولو بسيط  لمن تساءل عن دوافع القتل والتنكيل والدمار عند هؤلاء، فهم لا يقتلون من أجل الإيمان بالله بل يقتلون ليقوى إيمانهم بأن لهم قضية حقيقية يستظلون تحتها، فلا رجعة لهم من هذا الطريق، فبرهة من السلام تضعف هذا الإيمان بقضاياهم مع اختلاف بذار هذه القضايا التي يؤمنون به فهناك بذرة الكره، بذرة الإنتقام، بذرة اثبات الوجود فلابد لهم من سقي هذه البذار بالدم والضغينة ويباركوها بإسم الله والدين. 
لذلك علينا أن لا نستهين،  أو نتجاهل هؤلاء المهمشين أو التائهين، الغوغاء أو المجرمين لأن شعورهم بأن حياتهم فاسدة بلا أمل يجعل منهم بذرة لكل عمل غير متوقع، يجعل منهم أول الأتباع في أي جماعة تهبهم شيئاً من العنفوان والمكانة، فليس لديهم ما يخسرونه وهذا ما يؤكده في النص قول تاج عصمان: (حتى وإن كانوا لا يؤمنون بعقيدتنا، عندما يعون الخطر الذي يشكلونه، والغنائم التي سيجنونها، حينما يدركون أن حياة الآخرين وأموالهم ستكون ملكاً لهم سيكتشف كل واحد من هؤلاد التعساء أن باستطاعته أن يتحول إلى إله صغير، يحيي ويميت. إن البؤس لا يؤمن بواحات السلم. انزع له لجامه، ستراه ينقض على سعادة الآخرين).  
 
             
(خرفان المولى، المؤلف: ياسمينة خضرا ،ترجمة: محمد ساري ،دار النشر: دار الفارابي ـ بيروت ـ لبنان) .  
 
 
* المؤمن الصادق (أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية) إيريك هوفر ترجمة غازي القصيبي.
        

تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

توأم الروح

تاريخ المكتبات (٣) الحضارات القديمة وأوراق البردي