ذاتُهُ .. و القَدَر




ذات مساء .. اعتراه خوف اللقاء وثارت في داخله ذكرى أقداره القديمة. الموعد يقترب..يشعر بعقارب الساعة تنهش من قلبه و تتداخل بنبضه.. قدماه لا تقويان على حمله. يجوب غرفته من الركن إلى الركن ذهاباً و إياباً.. نبض قلبه يتسارع.. لا يعرف ما يخططه قدره، ولا يعلم مالذي يخبئه حظه العاثر.
في لحظة سكون لا يسمع فيها سوى نبضه يصم أذنيه، و إذ بالهاتف يشدو،وإذ بصوت الإيمان يلامس شغاف قلبه و يخبره بدنو اللحظة، في خضم الصدمة و إذ بأنين الباب ينادي...قشعريرة تسري في بدنه، إرتباك، فوضى عارمة داخله .و إذ به أمام القدر المحتوم وجهاً لوجه. و كأن القدر يقول له: ثق بي يا صاحبي و لو لمرة ، و اعذرني على ما مضى، ها أنا أهديك الإيمان من جديد و أعيد لك حظك المسلوب. رحّب بقَدَرِهِ و إيمانه بذهول..
في ذاك المساء سلب لب عقله لون ذلك الخمر المعتق، أدخله في لذة السكر و نشوة الهيام. أحس بقلبه يبني نصاً يكرره (بتشاؤم) الذكرى وكأنه لا يثق بهذا الإيمان و لا هذا القدر. متهيأً للفراق في لحظة العناق، استشرف قلبه المستقبل و أنشد :
كان لي من خمر شفتيها ..ذكرى. 
ومن عبق الزهر في خديها ذكرى..
وفي ذاك المساء: من حضن كفيها روتني،
و بإستبرق جيدها كستني. 
آآه كم رفلت في نعيمها، وصنت حماها.
حينها..انتابته رجفة البرد، و رعشة الفقد، فلم يجد في غير أنفاسها دفئاً و لا في غير عرش أحضانها ملاذاً.. خدر أصاب أطرافه. شعر بقدسية حضورها...  آمن بأن هناك للجمال في حضورها آية.
سبحان خالقها.. سبحان مُنشأها.. لحضورها هيبة ، لكلمتها نغم، و في صوتها أنين الناي، في أنفاسها حرائق تشي بمعدنها.
حاول استشراف مستقبله من محجر عينها  .. و تساءل 
كيف سأكون تحت وطأة قدسية هذا القدر و هذا الإيمان؟؟
كيف لي أن أتشبث بهذا الإيمان؟؟ 
ما هو المصير ..؟!
كيف هي الحياة بدونه؟! استرجع سؤاله، كيف هي الحياة بدونه ؟؟ جن جنونه و استدرك، و سأل نفسه مجدداً كيف لي ان أسأل عن الحياة بدونه؟؟ و هل بدون الإيمان حياة؟؟
 أحس بوخز آلم صدره و صوت الذات يدْوِي.. يوبخه ؛ أفق .. عش هذه اللحظه و لا تستشرف المستقبل...المستقبل؟، ماذا؟، كيف؟، لماذا؟؟ ذاته تصرخ يا سيد القلق ..يا سيد القلق..أفق، فالحب سلطان جائر إن تكسب وده يغدق عليك من نعمه، تغضبه..ينكل بك، ويذيقك ويلات العذاب. أَلِلَحظة لا تعلم ماهيتها تضيّع أروع لحظات العناق؟! للا شيئ تخسر لذة هذا الإستبرق البرّاق ؟؟ كم لك من الحيوات لتخسر كل هذا ؟؟ يا سيد القلق .. أفق! أفق! هذا هو الحب !!
الحب هو هذا الإنصهار الذي تشعر به الآن ..
هو هذه اللذة التي لم تعتد على استشعارها..
أغمض عينيك .. أَعِر هذه الأجواء حواسك .. استشعر! من أين هذا الدفء في أقسى لحظات الشتاء، كيف تفسر هذا الخليط من روائح الزهر و الياسمين في هذه الغرفة المغلقة؟؟  
أعرف أنك تتساءل ،فعادة القلق لا تنفك عنك أبداً. أبعد هذا السؤال عنك بعيداً، اهجره ملياً. فأنت في واقع و ليس حلم ،إنه واقع له وقعه.واقع له وقعه.

***

تمكن الليل من الكون و استبد السكون ، ولا زالت نار الصراع داخله مؤججة. حياة وهبته إيماناً لذيذاً بين يديه ، و شريط الذكريات يدور في رأسه، ذكرى تظهر و ذكرى تغيب وكأنه يحاول أن يلتقط صورة لشخص في قطار سريع يمر أمامه، أصابه دوار, و فوق كل ذلك صوت ذاته يؤزه أزّاً  نحو اللذة نحو النشوة يحاول أن يقتل القلق في شخصه.
أغمض عينيه سيد القلق، استشعر الأجواء، ضمها إليه..بشدة، أحس بترف حريرها، ارتشف من عتيق خمرها، طابت نفسه بفوح عبيرها، استنشق من أنفاسها،استسلم لسحرها، و انطوى تحت لواءها... مستسلماً.. إلى حين ...!

تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

باهَبَل مكة Multiverse - رجاء عالم

عالم صوفي * .. رحلة تطور الفكر الإنساني (٢)