كيف يمكن لبروست أن يغير حياتك*
مارسل بروست (١٨٧١ – ١٩٢٢) روائي وكاتب فرنسي يقدم لنا آلان دو بوتون من خلال قراءته لروايته "البحث عن الزمن المفقود" والتي تتكون من سبعة مجلدات، ومن خلال شخصية بروست أيضا، مهارات تحول الأسى إلى أفكار فقد كان بروست شخصاً ينتقص ذاته حيث أنه ابن وأخ لطبيبين ناجحين أما هو فكان مصاباً بالربو قضى كثيراً من أيام عمره على فراشه، لا يفارقه معطفه الصوفي خوفاً من اشتداد المرض عليه، فترجم كثيراً من أفكاره في روايته "البحث عن الزمن المفقود" وتوغل من خلال شخوصها الى الذات البشرية وانفعالاتها وردود افعالها.
ومن خلال قراءة آلان دو بوتون العميقة لهذه الرواية قسم الكتاب لعدة مواضيع متأملاً من خلالها افكار بروست والتي رأى أنها قد تغير حياة الكثيرين فكانت قراءة الذات أول هذه المواضيع فكان لبروست طريقته الخاصة في قراءة الفن والأدب فكانت هذه الطريقة هي المدخل لاكتشاف الذات وذلك بمحاولة ربط الأشخاص الموجودين في اللوحة مع أناس يعرفهم في حياته وكذلك في الأدب، فعادة عندما نقرأ الأدب نشعر ان هناك شخصية تشبه شخصاً نعرفه أو قد تشبه ذاتنا التي لا نجرؤ على الإفصاح عن خباياها "لو قرأنا الرائعة الجديدة لشخص عبقري، ستغمرنا البهجة حين نجد فيها تأملاتنا الشخصية التي نمقتها، الأفراح والأحزان التي كنا قد كبتناها، عالماً كاملاً من مشاعر كنا قد ازدريناها، لنُفاجأ بقيمتها التي يعلمنا إياها الكتاب الذي اكتشفناها فيه"
اقرأ في هذه المدونة " الانسان والمعنى " انقر هنا
ومن خلال ما عاناه بروست خلال حياته من المرض قرأ لنا الان دو بوتون كيف يمكن لنا ان نعاني بنجاح فوفقاً لرأي بروست "نحن لا نتعلم شيئاً على نحو امثل فعلياً الى أن نواجه مشكلة الى أن نتألم " الوهن وحده هو ما يجعلنا نلاحظ ونتعلم، ويمكننا من تحليل العمليات التي لم نكن لنعرف عنها شيئاً بدونه" "لن نصبح تواقين للمعرفة على نحو أمثل إلا حين يصيبنا اليأس" لذلك يجب أن نعمل إلى ان نجعل المعاناة طريقة وصول إلى التأمل الخلاق والذكي " فالبلايا تفقد أثرها إثر تحولها إلى أفكار، بعضاً من سلطتها على إيذاء قلوبنا".
أما عواطفنا والتعبير عنها قد تكون من أهم ما يشكل مسار حياتنا وذلك بتشكيل علاقاتنا مع الذات، والأفكار والأشخاص لذلك ومن تأملات بروست في التعبير عن العواطف وذلك من خلال قراءاته الأدبية وجد أن الكتّاب يعبرون عن عواطفهم أو عواطف شخوصهم بالاستناد إلى أفكار معلبة أو شحنات سلبية سابقة أو تقليداً لكتاب اكثر منهم شهرة، وهذا ما أسماه الكليشيهات وتكمن عند بروست "مشكلة الكليشيهات ليست في احتوائها على أفكار زائفة بل في كونها تجسيدات زائفة لأفكار شديدة الأصالة" فكما يعبر عن ذلك بروست بقوله " كل كاتب ملزم بخلق لغته الخاصة، كما أن كل عازف كمان ملزم بخلق نغمته الخاصة"
ومن تأملنا لهذه الأفكار عن التعبير عند بروست يمكننا أن نسقط ذلك على طريقة تعبيرنا عن مشاعرنا وتصويرنا لها في الحياة عامة حيث أنها لن تخلو من مثل هذه التأثيرات لذلك يجب أن يعبر الإنسان عن مشاعره وأفكاره بطريقته الخاصة وبكل صدق بدون التأثر بما يحيطه، فكلمات الإنسان، مشاعره، وردود أفعاله هي كتابة يمارسها يومياً، يجب أن يخلق لها اللغة والتصاوير الخاصة به حتى يكون هو ذاته. فالسعادة تكمن في أن تكون ذاتك.
اقرأ في هذه المدونة "عزاءات الفلسفة .. كيف تساعدنا الفلسفة في الحياة" انقر هنا
ثم يعرج بنا من خلال قراءته لبروست أيضاً إلى أفكاره وطريقته في التقاط الجميل في كل ما نراه ونمر به في الحياة فالجمال موجود في كل ما حولنا على حد تعبيره، واتخذ لوحات الفنان جان شاردان مثالاً يؤكد من خلاله هذه الفكرة فبالرغم من أن كثيراً من لوحاته تصور "زبدية الفاكهة، الأباريق، ركوة القهوة، وأرغفة الخبز، السكاكين، كؤوس النبيذ، أو شرائح اللحم، إلا أن هذه اللوحات خلقت من الأشياء الاعتيادية والتي نراها في كل يوم وقد مللنا من مشاهدتها شيئا ساحراً فكانت لوحات تمثل عالماً يخصنا إلا أنه مغوٍ على نحو رائع وغريب ويرى بروست "إن سبب الحكم على الحياة بكونها تافهة مع أنها تبدو لنا في لحظات محددة جميلة هو أننا نصوغ حكمنا اعتباطياً، لا استناداً إلى دلائل الحياة بذاتها بل إلى تلك الصور المختلفة كلياً التي لا تستبقي شيئاً من الحياة – وبذا نحكم عليها بازدراء". ومن خلال مثال أعمال الفنان شاردان يؤكد بروست "أن الرسامين العظماء يلقنوننا معرفة وحب العالم الخارجي، وكيف يكونون هم الذين تتفتح عيوننا من خلالهم، تتفتح على العالم.
Jean-Baptiste-Siméon Chardin |
تطرق الكتاب لعدة مواضيع أخرى كالسعادة في الحب والصداقة وغيرها، فمن خلال هذا الكتاب ومن خلال هذه التأملات أعطى آلان دو بوتون صورة أخرى مغايرة عن السائد فيما يخص قراءة الأدب، ووجّه رسالة معبرة لكل من يعد الفن أو الأدب مجرد ترف أو متعة وقتية لا تسمن ولا تغني من جوع، فاستخلص من الفن ومن العمل الأدبي الكثير من الحكم والدروس وذلك من خلال القراءة الواعية والتأمل العميق، وهنا يكمن السر.
---------------------------------
*كيف يمكن لبروست أن يغير حياتك - آلان دو بوتون - ترجمة يزن الحاج - دار التنوير
لمتابعة قناة حرم الجمال "يوتيوب" انقر هنا
لمتابعة قناة حرم الجمال "تيليجرام" انقر هنا
تعليقات
إرسال تعليق