الخوف



الخوف رواية من تأليف الروائي النمساوي ستيفان زفايغ ومن ترجمة أبو بكر العيادي عن دار مسكيلياني، تعمق من خلالها ستيفان في الحديث عن الرغبة والخوف وعلاقتهما بالإنسان وتأثيرهما عليه، فالإنسان هكذا هي طبيعته لا تستقر على حال، وإن استقرت على أي حال من الأحوال يسعى لتقويض هذا الاستقرار ويلقي بحجر المغامرة ليحرك ركود الحياة، فنحن البشر "نمارس الرغبة بطريقتين عندما نتوجه إلى شيء ما، فإما أن نخسر أنفسنا في سعينا إلى الموضوع الخارجي، وإما أن نخسر العالم إذا ما اتجهت الرغبة في سعيها إلى الذات نفسها"*  وهذا ما حصل مع إيرين التي خسرت نفسها  وهي السيدة المستقرة في حياتها مع زوجها وابنيها، سيدة من طبقة برجوازية جعلتها لا تحتاج إلى شيء، لا تشقى ولا تتعب وإنما سخرت أوقاتها للاجتماعات التي تشغل من هم في مثل طبقتها حيث (يلتقي كل أعضاء هذه الرابطة الخفية في الأوقات نفسها ليهتمُّوا بالأشياء نفسها. وعادةُ التقاء بعضهم ببعض وملاحظة بعضهم لبعض ومقارنة بعضهم بعضاً صارت تقوم شيئاً فشيئاً مقام علة وجود).

ملت إيرين هذه الحياة وهذا الركود وتحت تأثير الرغبة في لذة المغامرة تعرفت على شاب، عازف بيانو، عشقته وجعلت زيارته من احدى مهام جدولها، وفي ظل التناقض بين الرغبة والخوف، حيث أن هذا النوع من اللقاءات ينطوي على الخوف واللذة معاً، خوف لأن الوعي الذاتي يجد نفسه مجسداً في مكان آخر، لكن اللقاء نفسه مصدر انتشاء لأنه يجد في نفسه رغبة في الآخر عبر مبدأ الرغبة العابرة للذات. كان خوفها من أن تُفضح يقض مضجعها حتى قابلت من فهمت منها أنها صديقة عشيقها، هددتها بأن تفضحها وابتزتها يوم بعد يوم، إما الانصياع وإما الفضيحة، وبذلك أصبحت إيرين سجينة خوفها ألمَّ بها عذاب روحي جعلها بين نارين، بين نار الفضيحة أو الانصياع لهذه المبتزة، وفي ظل خوفها هذا تكشفت لها ذاتها فنسيت ذلك الشاب وانصب اهتمامها على شراء حريتها يوماً بعد يوم من تلك المبتزة وهذا الشعور أكد لها ان ما وهبته لهذا الشاب من حبها وجسدها مجرد رغبة ونزوة وليست حباً حقيقياً.

 عندما مكثت بسبب الخوف في بيتها لاحظت كم كانت بعيدة عن أبنائها، عن جهلها بهم وبأمور الحياة، عن مدى فراغ حياتها، لاحظت أنها توقفت عن زيارات ومهام كانت تتوقع أنها لا تستطيع العيش بدونها، فأصبحت (تشعر بالاشمئزاز من كل الذين لا يفعلون شيئاً، أولئك الذين يتحركون في الفراغ. أتاح لها هذا الإحساس القوي الأول الذي اعتراها، أن تكتشف كم كان ذوقها تافهاً). وهكذا تتكشف الذات الداخلية للإنسان من خلال ما يعانيه لا من خلال الركود ضمن منطقة الراحة لديه.

من خلال التقلبات النفسية لإيرين ومن خلال السرد السلس والعميق جداً أوضح لنا ستيفان زفايغ الكثير من التناقضات التي تعتري الذات الإنسانية من خلال التناقضات التي تتولد من خلال الصراع بين الرغبة والخوف. كيف للإنسان أن يقوم بالفعل واعياً بمخاطر هذا الفعل أو جرمه ثم يقع في عدم القدرة على الاعتراف بذلك الخطأ، إما خوفاً أو خجلاً، فيبقى أسيراً إما للخوف أو لتعذيب الضمير. وفي الأخير وبنظرة إيجابية لكل ما آلت له النفس البشرية ضمن هذه الصراعات النفسية إلا أن النفس البشرية لها القدرة على تكوين عالم جديد مهما عانت، فالخوف والمعاناة لا يدمران دوماً، فمن خلالهما يتمكن الإنسان من تقوية ذاته، يتعلم من تجاربه، يرمم نفسه. فالإنسان دوماً يجب أن يعي أنه كائن لا يتحطم إلى حد يتعذر عنده الإصلاح. يجب أن يعي أن الخوف ما هو إلا شعور إنساني، إما أن نحوله إلى سجن وعذاب لا نهائي لأرواحنا، وإما أن نتخلص منه فقط بالتحلي بالشجاعة والاعتراف بأخطائنا ومواجهة عواقبها بقلب جسور.
***********
لمتابعة قناة حرم الجمال على التيليجرام ( انقر هنا )
لمتابعة قناة حرم الجمال على اليوتيوب ( انقر هنا )
_______________________________________
 * جوديث بتلر / الذات تصف نفسها / ترجمة فلاح رحيم

تعليقات

  1. جميل .. شوقتني لقراءة هذه الرواية.. ولفهم معرفة كيف واجهت هذه المبتزة وانتهى أمر ابتزازها..

    شكراً لك

    ردحذف
  2. كل الشكر لك لمرورك وتعقيبك .. قراءة ممتعة ��

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

توأم الروح

تاريخ المكتبات (٣) الحضارات القديمة وأوراق البردي